كلمات آبائية على أناجيل قداسات أحاد السنة القبطية



كلمات آبائية على أناجيل قداسات أحاد السنة القبطية

كلمات آبائية على أناجيل قداسات أحاد السنة القبطية

كلمة الله وليتورجيا الإفخارستيا

"وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَالشَّرِكَةِ وَكَسْرِ الْخُبْزِ وَالصَّلَوَاتِ" (أع24:2). هذا الوصف التلقائي الوارد في سفر أعمال أبائنا الرسل، يقدم لنا الحياة المسيحية كمواظبة على ليتورجية واحدة ذات أربعة أبعاد: "تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَالشَّرِكَةِ وَكَسْرِ الْخُبْزِ وَالصَّلَوَاتِ". بكلمات أُخرى؛ كلمة الله والحياة بها والإفخارستيا والصلوات.
   "كلمة الله"، بها ظهر الله ناطقاً متحدثاً إلى الإنسان الذي خلقه "عَلَى صُورَةِ اللهِ" (تك27:1). فهي بنوع ما، إخلاءٍ وإعلان إلهي على لغتنا البشرية، أكمله لنا الآب "بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ ثم "كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ" (عب1:1-2)[1]، وبمجيء الروح القدس ليكتب بنفسه كلمات العهد الإلهي الجديد معنا، في قلوبنا الجديدة[2].  
أما الليتورجيا فهي "كلمة مشتقة من اليونانية وهى تعني "خدمة عامة"...تؤكد على إحدى الخصائص المميزة للعبادة المسيحية: أي صفتها العامة التي تشمل المجتمع الكنسي كله، وليس مجموعة خاصة منه...وبدءاً من القرن الرابع أشارت كلمة "ليتورجيا" إلى الاحتفال الإفخاريستى بشكل أكثر تخصيصاً...والتي تأكدت بالصفة المميزة: الليتورجيا الإلهية". "... وعلى هذا الأساس ينبغي لنا أن نقارن ذلك باللفظة "إكليسيا" أي "كنيسة" من اللفظة اليونانية "كالين" وتعني..."يدعو إلى عقد اجتماع أو صلاة جموعية...ليكون "إجتماعاً" أو "جماعة" بالعبرية: "قاهال" "[3]. "هذه الألفاظ والعبارات كلها تستعمل للدلالة على جماعة الشعب الملتئمة للصلاة وسماع كلمة الله وتذكر عهده"[4]، وهكذا ترتبط كلمة الله بالقراءة العلنية وسط الجماعة في عبادتها.

***
     وبعد صعود المسيح وفي بداية الكرازة الرسولية تقوت شركة المؤمنين معاً ومع الرسل والإنجيليين من خلال تعليمهم وكرازتهم في الاجتماعات الإفخارستية خاصة وارتفعوا معاً لشركة الرب الحاضر معهم كل الأيام[5]، حتى أن الرسول بولس يشكر الله من جهة التسالونيكيين الذين قبلوا كلامهم بالحقيقة ككلام الله قائلاً: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نَحْنُ أَيْضاً نَشْكُرُ اللهَ بِلاَ انْقِطَاعٍ، لأَنَّكُمْ إِذْ تَسَلَّمْتُمْ مِنَّا كَلِمَةَ خَبَرٍ مِنَ اللهِ، قَبِلْتُمُوهَا لاَ كَكَلِمَةِ أُنَاسٍ، بَلْ كَمَا هِيَ بِالْحَقِيقَةِ كَكَلِمَةِ اللهِ، الَّتِي تَعْمَلُ أَيْضاً فِيكُمْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ" (1تس13:2)[6].
     وقد أودع الرسل الكنيسة، كتبهم ورسائلهم وحفظتها الكنيسة كوديعة إيمان، فاحتضنت الكتاب واحتضنها الكتاب أيضاً في وحدة فريدة شبهت بالجيش الذي يحمي الملك والملك يقود الجيش للنصر.       كان الإيمان الذي يملأ المؤمنين أثناء قراءة كتبهم ورسائلهم الموحى بها من الروح القدس، أنهم لا يتعاملون مع ورق وكتب بل مع كلمة الله، مع الرسل والإنجيليين أنفسهم وكرازتهم الحية. حينما يُقرأ البولس في القداس اليوم يصلى الكاهن معتبراً أن تعاليم الرب المقدسة التي كرز بها بولس قد "قرئت علينا الآن من قِبَلِه"[7].
     الكنيسة المجتمعة حول سر الشكر هي سر حضور المسيح الذي يجعل واقع تجسده لا يغيب عن العالم. الإفخارستيا ليتورجيا سمائية تتجاوز الزمان المحسوب بالأيام والسنين والمكان المقاس بالطول والعرض. الليتورجيا التي تقيمها الكنيسة اليوم هي شركة في الليتورجيا التي قدمها "الرَّبَّ يَسُوعَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا"[8] في الْعِلِّيَّة مع تلاميذه. المسيح "كائن معنا على هذه المائدة اليوم"[9] لذلك يقدس الكاهن بنفس كلمات الشكر والبركة والتقديس التي تكلم بها المسيح، لأنها تحمل نفس القوة التي خرجت منه على الخبز والكأس. وفي صلاة أخرى يقول: "أنت يا سيدنا بصوتك وحدك حول هذين الموضوعين..."[10]. وكذلك حينما تقرأ كلمة الله في سر الشكر فإن المسيح هو الذي يتكلم ويكرز ويبشر، فالكلمة الإلهية وإن سلمت لشفاه بشرية إلا أنها لا تفارق نبعها الذي خرجت منه، هي آتية للكنيسة منه مباشرة.
     سمعت الكنيسة صوت إلهها أثناء ليتورجيا الإفخارستيا فكان الكتاب المقدس كتابها الليتورجى الأول. حوله تجتمع ومنه تستقي ليتورجيتها. الليتورجيا أظهرت وألمعت الكتاب، والكتاب تألق وتجلى في الليتورجيا.

***
الإنجيل باعتباره كلمة الله يوضع على المذبح في القداس الإلهي، تأكيداً على أن الجسد والدم لا ينفصل عن كلمة الله. لا يتحقق السر خلواً من الكلمة ولا الكلمة يكتمل فعلها بدون السر. وأن الإنجيل الذي قرأناه هو يحملنا "الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكلاَمِ" (يو15:3) إلى المسيح الذبيحة والكاهن والمذبح معاً، لكي يوزع علينا ميراث كلمته وجسده الواحد في الروح القدس الواحد.
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم في هذا الصدد: "الإنجيل ليس بنصٍّ حرفي بل هو كلمة حية...لا منفعة للكتاب إذا فصل عن المسيح أو عما قاله الآباء في المسيح يسوع وعما يقوله الروح القدس...الإنجيل هو أيقونة المسيح المتجسد...إن من يطلب فهم الكتاب المقدس في شركة الأسرار وفي الصلاة يختبر عزاء اللقاء بالسيد في النصّ الإنجيلي ويحمل من خلال الكلمة المكتوبة إلى حيث يجالس الكلمة الذي كان من البدء. لا فرق بين الكلمة المعلنة في الإنجيل والكلمة المتجسد في الكأس المقدسة وسط الكنيسة المجتمعة"[11].

***
"اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يو18:1)، واستناداً على الإيمان بخروج المسيح من عند الآب إلينا، يؤخذ الإنجيل من على المذبح موضعه الأصلي، ليقرأ خارج الهيكل. إن الكنيسة المجتمعة الآن لا تسمع قراءة كتاب أرسله إله محتجب، بل تسمع صوت "ﭐلْكَلِمَةُ" الذي "صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ" (يو14:1)، فإن قراءة واستماع الكلمة في الليتورجيا لهي شهادة حية على أن أنه لو لم يخرج الابن من عند الآب ويصير جسداً ويحل بيننا،  لما كنا قد أُعطينا الكلام الذي أعطاه له الآب ولاعرفناه.
إذاً، اجتماع الكنيسة لسماع كلمة الله في الليتورجيا، مبني على حب للمسيح وإيمان بخروجه من عند الآب، كما جاء في إقرار التلاميذ بإيمانهم: "نُؤْمِنُ أَنَّكَ مِنَ اللَّهِ خَرَجْتَ" (يو30:16)، وقد قبل المسيح حبهم وإيمانهم هذا فقال لهم: "الآبَ نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ لأَنَّكُمْ قَدْ أَحْبَبْتُمُونِي وَآمَنْتُمْ أَنِّي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجْتُ" (يو27:16)، ثم رفع للآب قبول تلاميذه كلامه في صلاته: "الْكلاَمَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِيناً أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي" (يو8:17).
ولما كان عدم الإيمان بخروج المسيح من عند الآب متوافراً عند سامعيه من اليهود كما قال لهم: "لَوْ كَانَ اللَّهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَأَتَيْتُ" (يو42:8)، أصبح عدم فهمهم كلامه نتيجة طبيعية لعدم إيمانهم، فقال لهم: "لِمَاذَا لاَ تَفْهَمُونَ كلاَمِي؟ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي" (يو43:8). إننا بنفس حب وإيمان وقبول التلاميذ كلام المسيح نقرأ ونسمع ونفهم كلامه "لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضاً قَدْ بُشِّرْنَا كَمَا أُولَئِكَ، لَكِنْ لَمْ تَنْفَعْ كَلِمَةُ الْخَبَرِ أُولَئِكَ. إِذْ لَمْ تَكُنْ مُمْتَزِجَةً بِالإِيمَانِ فِي الَّذِينَ سَمِعُوا" (عب2:4).

***
وحينما يرفع الكاهن الحمل فوق رأسه ووجهه نحو شعب الله ويقول: "سلاماً وبنياناً لكنيسة الله"، فإنه يعلن أن هذه الليتورجيا تبني الكنيسة باعتبارها ملكوت المسيح على الأرض. وهذا مستحيل بدون قبول واستجابة قوية لكلمته، ولهذا تعزز الكنيسة استجابتها لكلمة الله بالإيمان الذي لن نقتنيه إلا بكلمة الله في الروح القدس[12]. فإنه "من بين كل الكلمات المُعلَنة تأتي كلمة الله في المقدمة وفى الصدارة فهي كلمة الدعوة والاستدعاء وحث الشعب على الاستجابة له بكلمة الإيمان، وأن يصير الشعب كله لله بالكامل ملتزماً بكلامه وعهده. وفى كلا العهدين القديم والجديد تلعب الكلمات دوراً هاماً وخاصاً
أولاً: لأن الإيمان بالسماع ولابد للكلمة أن تذاع وتنشر وتقال ويسمعها الجميع.
ثانيا: لأن الاستجابة بالكلمات أو قل للكلمات والأقوال هي بالدرجة الأولى إسلوب بشري صرف بشكل خاص يستطيع بها الإنسان أن يعرف مضمون الإيمان ومحتواه ومغزاه، لنفسه وللآخرين من حوله"[13]. "فإجابة الإنسان علي الكلمة تشكل إذن موقفاً داخلياً متشعباً يشمل جميع نواحي الحياة الفائقة الطبيعة"[14].

***
إن ما تزخر به كتابات الآباء من تعليقاتهم وتفسيراتهم التاريخية والخريستولوجية والليتورجية والأخيرية والروحية لكتب العهد القديم والأناجيل والرسائل والمقاطع الكتابية المتعددة، قد أثرت قطعاً في اختيار وترتيب فصول القراءات الكتابية في الليتورجيات كافة، كالمعمودية والقداس والأعياد والمناسبات الكنسية المتنوعة. القراءات الكتابية الليتورجية نفسها هي ترتيب آبائي يحمل بالطبع نفس سمات رؤية آباء الكنيسة اللاهوتية وعبادتهم وتعليمهم وروحانيتهم. وعلى سبيل المثال، وبالإضافة إلى تفاسير الآباء المتنوعة للفصل التاسع من إنجيل يوحنا، فقد عُرف عند آباء الكنيسة "كإشارة مسبقة للسر...وكصورة للمعمودية المقدسة"[15]، لذلك يُقرأ هذا الفصل في قداس الأحد الرابع من شهر طوبة[16] الذي يأتي في أعقاب عيد الظهور الإلهي، ويقرأ كذلك في الأحد السادس من الصوم الكبير والمعروف بأحد التناصير[17]، بإعتبارهما مناسبتين هامتين لمنح سر المعمودية. وهنا فإن الإنجيل لا يُعاش معناه الواسع إلا من خلال السر الكنسي الذي يقرأ فيه، كما أن السر لا يُتعمق في فهمه إلا من خلال القراءة الليتورجية والآبائية للكتاب المقدس.
هذا يعني جوهرياً أن قراءة الكتاب بالآباء هي استنارة بما أعطاه لهم الروح القدس ويعطيه لنا الآن، وتذوق ما ذاقوه واختبار ما اختبروه وحيوه في كلمة الله ولا سيما في الليتورجيا الإلهية. وهذا ما ترجوه هذه الدراسة الآبائية على أناجيل قداسات أحاد السنة القبطية.







[1] قابل يو8:17، 14
[2] أر33:31، عب10:8
[3] Encyclopedia of the Early Church. Cambridge. Vol, 1 P,494
[4] اللاهوت المسيحي والإنسان المعاصر. الأب سليم بسترس. منشورات المكتبة البولَسية لبنان. طبعة أولى1985 جـ ـ 195
[5] مت19:28 ، مر20:16
[6] الجدير بالذكر أن هذه الآية هي بداية فصل البولس للأحد الرابع من مسرى والأخير من السنة، بعدما اجتمعنا "فِي الْكَنِيسَةِ سَنَةً كَامِلَةً" (أع26:11 وهذه الآية من فصل الإبركسيس لنفس الأحد أيضاً) حول كلمة الله في القداسات على مدار السنة الليتورجية.
[7] سر البولس. كتاب الخولاجي المقدس. القمص عبد المسيح صليب. الطبعة الأولى 1902 صـ246
[8] 1كو23:11
[9] صلاة قسمة للآب تقال في أعياد الملائكة والسيدة العذراء. كتاب الخولاجي المقدس. المرجع السابق. صـ718
[10] سر حلول الروح القدس. القداس الغريغوري. كتاب الخولاجي المقدس. المرجع السابق. صـ498
[11] القديس يوحنا ذهبي الفم. خطيب الكنيسة الأعظم القديس يوحنا ذهبي الفم. الأب إلياس كويتر المخلصي. منشورات المكتبة البولَسية لبنان. طبعة أولى 1988 عظة عن الإنجيل. صـ52
[12] يو13:16-14
[13] The Study of Liturgy. SPCK London 1983 P, 10
[14] معجم اللاهوت. دار المشرق بيروت. الطبعة الثالثة 1991 صـ664
[15] القديس كيرلس الأسكندري. شرح الأصحاح التاسع من إنجيل يوحنا. المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية القاهرة 2000 صـ11
[16] يو1:9- 38
[17] يو1:9- 41

Post a Comment

أحدث أقدم