شرح صلاة اللقان | التعاليم الروحية في صلوات اللقان



شرح صلاة اللقان | التعاليم الروحية في صلوات اللقان

التعاليم الروحية في الصلوات الليتورجية (2 ـ في صلوات اللقان)
مقدمة :
1 ـ معنى كلمة لقان :
كلمة لقان ، هي كلمة غير عربية ، بل يونانية " <h lek£nh " بمعنى إناء يستخدم في غسل الأيدي أو الأرجل بالماء [1]. وأصبحت من المصطلحات الكنسية الليتورجية ؛ إذ يستخدم هذا الإناء في صلوات لغسل الأرجل والأيدي [2] في مناسبات سنوية ثلاث هي يوم خميس العهد ، وعيدي الغطاس المجيد والرسل .
+ والكلمة المرادفة لكلمة لقان هي " المغسل[3] " أو " المحرضة[4] " .

2 ـ استخدام الماء في التطهير :
الماء ضروري لحياة الكائنات[5] أو النباتات . ويستخدم الإنسان الماء في أغراض كثيرة في حياته، منها أنه يستخدمه في الغسل والتطهير .. ومن هنا جاء المعنى الروحي لاستخدام الماء في التطهير[6] وغفران الخطايا، الفعل الذي تمارسه الكنيسة وتتممه في ليتورجياتها حيث يمثل الماء عنصرًا أساسيًا سواء في قداسات اللقان أو قداسات الماء كما تسميها الكتب الطقسية[7] أو في ليتورجية المعمودية كما سنرى فيما بعد .

3 ـ صلوات اللقان :
تنقسم صلوات اللقان في الكنيسة أساسًا إلي قراءات من نبوات العهد القديم ثم جزء من رسائل العهد الجديد ومزمور ثم فصل من الإنجيل المقدس بالإضافة إلى ذكصولوجيات للثالوث مع تلاوة قانون الإيمان وتمجيد ليوحنا المعمدان أو لآبائنا الرسل ، مع طلبات الأواشى، ثم صلوات تقديس الماء .
وفي سياق بحثنا عن التعاليم اللاهوتية في صلوات اللقان يجدر بنا أن نتعمق في نصوص هذه الصلوات وصولاً إلى غاية بحثنا هذا .
والجدول الآتي يوضح شواهد قراءات صلاة اللقان الثلاثة :

لقان الغطاس

لقان الخميس الكبير

لقان عيد الرسل

النبوات
النبوات
النبوات
حبقوق2:3ـ19

إش1:35ـ2

إش1:40ـ5
إش1:9ـ2
باروخ36:3ـ38
ـ1:4ـ2

 

حز24:36ـ29

حز1:47ـ9
تك1:18ـ23
أمثال1:9ـ11
خر14،15(ملخص)
يش1،3(ملخص)
إش1:4ـ4
إش1:55ـ13
ـ1:56

حز24:36ـ29

حز1:47ـ9

خر22:15ـ1:16

خر17:30ـ30
إش16:1ـ26

إش1:35ـ10

إش16:43ـ1:44ـ6
زك7:8ـ19
زك8:14ـ11

القداس
القداس

القداس

1كو1:10ـ13
مز3:113ـ5
مت1:3ـ17
1تيمو9:4ـ1:5ـ10

مز7:50ـ10

يو1:13ـ17

عب22:10ـ38

مز7:50ـ10

يو1:5ـ18

ويلاحظ في هذا الجدول تكرار بعض القراءات من حزقيال في لقان الغطاس وخميس العهد ، وتكرار المزمور 50 في خميس العهد والرسل ، وإشعياء في عيد الغطاس وعيد الرسل.


أ ـ النبوات :

تركز معظم القراءات من نبوات العهد القديم على عمل الكلمة قبل التجسد في المياه للتطهير والتقديس وفعله في داخل النفس البشرية كفعل المياه في الأرض العطشى والموضع القفر .
وإذا هي تركز على هذا المفهوم فإنها تجذب الانتباه ـ بعين النبوة ـ نحو شخص المسيح المتجسد والذي تعمد في نهر الأردن فقدس المياه وأعطى للبشرية إمكانية حلول الروح القدس ، والذي غسل بالماء أرجل تلاميذه فأعطاهم مفهومًا جديدًا عن التواضع وإنكار الذات وضرب بهذا مثالاً يجب على كل ما يتبعه أن يتمثل به وهكذا فعل الآباء الرسل في بداية خدمتهم بعد أن صاموا وهكذا تفعل الكنيسة أيضًا عندما تمارس طقس اللقان جاذبة الانتباه نحو السيد المسيح " المعمد في مياه الأردن والغاسل بالمياه لأرجل تلاميذه يوم خميس العهد والمقتدي به من رسله القديسين في عيد الرسل " .         
ففي عيد الغطاس ، أو عيد الظهور الإلهي[8] نسمع حبقوق في صلاته للرب قائلاً " عندما يأتي الزمان تظهر " .. وذلك لأن حبقوق يعي أن عمل الرب هو من أجل خلاص الشعب الذي مُسح فصار شعبه وهانحن في المعمودية نُمسح فنصير شعبه لهذا وضعت الكنيسة صلاة حبقوق التي تعبر عن هذا العمل فتقول بلسانه " خرجت لخلاص شعبك لتخلص الذين مسحتهم[9] " . 

وهذا الخلاص هو مصدر فرح وتهليل للبشرية التي نالت في المسيح شركة الروح القدس في المعمودية ، وهذا الفرح يُشبه فرح الأرض العطشى بالمياه واحتياجها له لكي تنبت وتنمي وتثمر ، وهنا تضع الكنيسة أمامنا في القراءة التالية تلك العبارة المعبرة عن هذه الحالة على لسان إشعياء النبي فيقول " فلتفرح براري الأردن لأنه أُعطي مجد لبنان وكرامة الرسل[10] " (1:35ـ2) . لقد كانت البشرية في حالة من البؤس والمسكنة تبحث عن معين بين البشر ، بلا جدوى ، فالرب وحده هو المخلص وهو المنقذ . إنه الإنسان العطش الذي يطلب ماء ولا يوجد .. وإنه الرب الذي يستجيب ولا يترك . فيفتح على الهضاب أنهارًا وفي وسط البقاع ينابيع .. لكي ينظر ويتأمل الإنسان في قدرة الرب وإبداعه، فيذكر إشعياء في موضع آخر " البائسون والمساكين طالبون ماء ولا يوجد ، لسانهم من العطش قد يبس . أنا الرب استجيب لهم أنا إله إسرائيل لا أتركهم ـ افتح على الهضاب أنهارًا وفي وسط البقاع ينابيع. أجعل القفر أجمة ماء والأرض اليابسة مفاجر مياه .. أجعل في البرية الأرز والسنط والآس وشجرة الزيت . أضع في البادية السرو والسنديان والشربين معًا . لكي ينظروا ويعرفوا ويتنبهوا ويتأملوا معًا أن يد الرب فعلت هذا وقدوس إسرائيل أبدعه " (إش17:41ـ20) .

لقد نالت البشرية بالمعمودية خلاصًا .. فالسيد المسيح في تجسده اتخذ طبيعتنا البشرية وجعلها طبيعة خاصة به . اتحد بها اتحادًا أقنوميًا بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير . ولهذا ففي العيد الغطاس أو عيد الظهور الإلهي أي عيد معمودية السيد المسيح وحلول الروح القدس عليه في شبه حمامة وسماع صوت الآب من السماء ، تعمد كل جسد في جسده وعاين الكل في ظهور مجده خلاص الله حيث تكلم الآب " هذا هو ابني الحبيب " وأصبحنا نحن " أبناء الله فيه " . إن هذا التعليم اللاهوتي الرائع تُجمله نبوة إشعياء التالية " يظهر مجد الرب وكل جسد يعاين خلاص الله لأن الرب تكلم " (إش4:40حسب الترجمة السبعينية) .

وعيد الغطاس كان يُسمى عيد الأنوار كما تسمى المعمودية استنارة . وكل من يؤمن بالمسيح ويُدفن معه ويعمد باسم الثالوث ، يُعطى حياة وينتقل من الظلمة إلى نوره العجيب . لقد أتي المسيح الذي قال عن نفسه "أنا هو نور العالم " في الجسد وظهر في الجليل ونادى قائلاً " إن من يفعل الحق يقبل إلى النور لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة " (يو21:3). وهكذا تحققت النبوة القائلة " اسمعوا هذا أولاً  وأعلموا سريعًا باكورة زبولون وأرض نفتاليم طريق البحر وبقية السكان في الساحل وعبر الأرض ، جليل الأمم[11] . الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا السالكون في الكورة وظلال الموت أضاء النور عليهم " (إش1:9ـ2)[12] .

ومن هنا جاءت كلمات السيد المسيح في سياق حديثه الواضح مع نيقوديموس حول الولادة من الماء والروح (المعمودية) حيث يسجل لنا يوحنا الإنجيلي قول السيد المسيح بأن " النور قد جاء إلى العالم " (يو20:3) وبهذا تتحقق نبوة إشعياء والتي تضعها الكنيسة بعناية أمامنا في صلوات لقان عيد الغطاس المجيد ..


فهدف هذه القراءات ، كما سبق القول هو تنبيه ذهن السامعين وتوجيه انتباههم دائمًا نحو شخص السيد المسيح المخلص ، والذي في تجسده لم يزل إلهًا[13] . فلم يكن هو محتاجًا لا لمعمودية ولا لحلول الروح القدس عليه، إن كل ما فعله هو لحساب البشرية ، وأن كل ما تممه لحسابنا قد أتمه في جسده الخاص الذي شابهنا في كل شئ ما عدا الخطية وحدها ، فإن كنا ننظر إليه ويوحنا يعمده إلاّ أن الكنيسة تضع أمامنا نبوة باروخ لكي نصرخ معه قائلين " هذا هو إلهنا ولا نحسب معه آخر[14] " . ذلك لأن "هذا ظهر على الأرض وتحدث مع الناس " إذن فتجسده حقيقي لا خيالي .. غير أن إدراك هذه الحقيقة .. أي سر تجسده وعمله الخلاصي لهو أمر يتطلب معرفة إلهية لا بشرية تعطى (بالروح) وهذا ما تؤكده أيضًا نبوة باروخ "وجد كل طريق المعرفة وأعطاها ليعقوب فتاه وإسرائيل الذي أحبه " .

ففقط من يؤمن بشخص السيد المسيح تمتع بعمله الخلاصي الذي أتمه من أجلنا وسرت فيه مفاعيل سر المعمودية ليس فقط بغفران الخطايا والآثام بل ما هو أبعد من هذا، بعطية القلب الجديد والروح الجديد وبجعل الروح في داخلنا ويهبنا التبني ..
ويكشف حزقيال النبي أبعاد هذا السر فيقول " هذا ما يقوله الرب الإله إنس سأنضح عليكم ماءً مختارًا فتطهروا من جميع خطاياكم ومن جميع آثامكم وأنقيكم وأعطيكم قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا ، وأصيره داخلكم ، وأنزع القلب الحجري من أجسادكم ، وروحي أجعله فيكم وأصنع بكم كما يصنع بالأبناء الأحباء .. وتكونون لي شعبًا وأنا أكون لكم إلهًا .. وأطهركم من جميع آثامكم " (حز24:36ـ29سبعينية) .

ثم تختتم نبوات صلوات لقان عيد الغطاس المجيد بنبوة أخرى " لنبي الروح القدس " حزقيال (1:47ـ9) توضح تعليمًا رائعًا عن المعمودية "كمدخل " لملكوت الله (يو5:3) ومراحل عمل الروح القدس في النفس .. وبعناية شديدة تختار الكنيسة عبارات حزقيال لتعبر بها عن هذا التعليم " ثم حملني الروح وأدخلني من باب البيت ". فالشخص الذي يؤمن بألوهة السيد المسيح وربوبيته يحمله الروح إلى داخل البيت[15]، بيت الله وبالمعمودية يجعله من أهل هذا البيت (الكنيسة) وعضوًا في ملكوته " إذ يسكن الروح في هيكله ، وإذ يستجيب لعمله داخل نفسه ويتعمق في الشركة معه يزداد فيض الروح فيه جدًا[16] .. إلى أن يمتلئ وتنبع من داخله إنها أنهار ماء حي. بل ويصبح كل شخص يسلك بالروح في ناموس الرب حيث تكون مسرته، كالشجرة المغروسة عند مجاري المياه (مز2:1). معطية الثمار في أوانها وورقها لا يذبل .. وكل ما يصنع ينجح فيه .. هذا هو الشخص الذي حلّ عليه الروح القدس في المعمودية فصار شجرة مغروسة في كرم الرب كتلك التي رآها بعين النبوة حزقيال إذ شاهد عند رجوعه إلى الشاطئ " أشجار كثيرة جدًا من هنا ومن هناك " (عدد7) ..

وأخيرًا رأي حزقيال " السمك كثير جدًا لأن المياه تأتي إلى هناك فتشفي ويحيا كل ما يأتي النهر إليه " (عدد9) .
فكما تشير الأشجار إلى المؤمنين في تشبههم بالسيد المسيح إذ هو "شجرة الحياة " هكذا يشير السمك الذي رآه حزقيال إلى المؤمنين الذين يتشبهون بالسيد المسيح " السمكة[17]" ICQUS ، وحيث يستمدون حياتهم من المعمودية كما يعبر ترتليان " نحن السمك الصغير بحسب سمكتنا يسوع المسيح قد وُلدنا في المياه ولا نكون في آمان بطريق ما غير بقائنا في المياه على الدوام " .

وأخيرًا يذكرنا السؤال التعجبي الذي ورد في رؤيا حزقيال " أرأيت يا ابن آدم " بقول الله لآدم : أين أنت ، فإن كان آدم قد فقد نتيجة السقوط فعل الروح القدس داخله فالآن وبالمعمودية قد أُعطي للإنسان شركة الروح القدس مرة أخرى ، وبالتالي فقد استعاد آدم ما فقده بل وأكثر من ذلك ، إذ هو حلول على الطبيعة البشرية المتحدة في اتحاد أقنومى لا ينفصل بالطبيعة الإلهية في شخص المسيح الواحد الذي تحتفل الكنيسة بمعموديته ومعموديتها في عيد الغطاس المجيد .

ب ـ القراءات :
وسنحاول خلال حديثنا التحدث عن قراءات لقان عيد الغطاس وإيضاح المفاهيم اللاهوتية والروحية فيها .





[1] انظر :
D. Dhtrakou ; mšga lšxikon </olhj thj Ellhnikhj glwssaj, tomoj H/. s. 4291.
[2]  Leon Clugnet: Dictionnaire des noms Liturgiques. Variorum Reprints London 1971, P. 91.
[3] كتاب اللقان والسجدة حسب ترتيب آباء الكنيسة : القمص عطا الله أرسانيوس المحرقى، القاهرة 1971 ص128.
[4] أنظر سفر الخروج "وتضع مرحضة من نحاس، وقاعدتها من نحاس للاغتسال، وتجعلها في خيمة الاجتماع والمذبح وتجعل فيها ماءً ، فيغسل هرون وبنوه أيديهم وأرجلهم منها " (خر17:30ـ19).
[5]  لأجل هذا تطلب الكنيسة بركة الرب على المياه ليزداد ويعلو من أجل خير البشر . وذلك في أوشية المياه .
[6] خصوصًا في العهد القديم : أنظر خر17ـ21 ، تث16:1 ،خر25:36 وأيضًا في العهد الجديد : عب22:10 ، يو6:2، يو1:5ـ4  .
[7] المرجع السابق ص 37.
[8] سنكتفي في هذا المقال بحث نصوص صلوات لقان عيد الغطاس .
[9] وفي ترجمة أخرى "لتخلص مسيحك" والترجمة الأولى فيها تلميح إلى الشعب أكثر منه إلى الملك.
[10] حسب الترجمة السبعينية .
[11] يُقصد بها مدينة الجليل حيث كرز السيد المسيح .
[12] أنظر إش6:42ـ7 " لأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم لتفتح عيون العمي .. وتخرج الجالسين في الظلمة " .
[13] أنظر مرد ثيؤتوكية الخميس " لم يزل إلهًا أتي وصار ابن بشر لكنه هو الإلهي الحقيقي أتي وخلصنا " .
[14] يستخدم القديس كيرلس عمود الدين هذه الآية للرد على الهراطقة وذلك في تفسيره لإنجيل يوحنا (8) حيث يزعمون أن المسيح بقوله أنتم من هذا العالم كان يقصد أنه هو ليس من هذا العالم بل هو جسد خيالي .
[15] البيت هنا إشارة إلى الكنيسة والمذبح نحو المشرق .
[16] هذا ما ترمز إليه نبوة حزقيال عندما تذكر ارتفاع المياه بالتدريج كلما دخل إلى العمق .
[17] والمعروف أن السمكة كانت رمز بين المسيحيين في القرون الأولي وفي أيام الاضطهاد كما تدلنا الآثار الموجودة منذ تلك الفترة .

Post a Comment

أحدث أقدم