الأعياد الكنسية والسنة الطقسية (2)



الأعياد الكنسية والسنة الطقسية (2)

1ـ السنة الطقسية: حركة إعلان:
في الرسالة إلي العبرانيين نجد "الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه".[1] الله دائما لم يتركنا إلي الانقضاء بل تعهدنا وعلمنا وشرح لنا بالأنبياء وبطرق كثيرة، ولكن في آخر الأيام اخبرنا عنه الابن الوحيد الكائن في حضنه الأبوي. كل حين جاء إلينا مولودًا من امرأة تحت الناموس ليخلص الذين تحت الناموس[2] . هذا الحدث هو ما يكرز به الرسل ويعلن لنا في قراءات الكنيسة لأن " السر المكتوم منذ الدهور ومنذ الأجيال الآن قد أظهر لقديسيه "[3] وظهر هذا السر بـ " الكرازة بيسوع المسيح حسب إعلان السر الذي كان مكتومًا في الأزمنة الأزلية ولكن ظهر الآن وأعلم به جميع الأمم بالكتب النبوية حسب أمر الله الأزلي لإطاعة الإيمان"[4]. 

2ـ السنة الطقسية: الذاكرة الحية لعمل الخلاص:
لما أُعلِن السر للكنيسة وجب عليها أن تحفظه نهارًا وليلاً بدون انقطاع ، تقوله باستمرار، من عام إلي عام، ومن يوم إلي يوم، ليس كحدث تم في الماضي وعرفته كمعلومة تاريخية، ولكن كالحدث الأهم والذي بدونه تظل مدوسه، هو كما تسميه الكنيسة[5] " غني رحمتك الذي لا يستقصي "، هذا السر تحفظه الكنيسة لتبشر به وتُضطَّهد من أجل إعلانه، وتكون غاية الكنيسة أن " أنعم علينا كل حين أن نسلك في أثارهم (أي الرسل) ونكون متشبهين بجهادهم ونشترك معهم في الاعراق التي قبلوها علي التقوى "[6]. كل حين تنظر الكنيسة عمل عريسها، فهو حاضر في وسطها كل حين وكل الأيام وإلي انقضاء الدهر حسب وعده[7].

3ـ السنة الطقسية: تقديس للزمن:
احتفال دائم بسر خلاص الله، حضور دائم للمسيح، لهذا ؛ يتحول الزمن من حركة كواكب ونجوم في الفلك، إلي حركة إعلان مجد الرب ، اكتشاف سر المسيح، قراءة لعمل الله مع الإنسان، سعي الإنسان لاكتشاف الله في زمن مجيد بدل من أزمنه الجهل[8]. ومن عام إلي عام يزداد إعلان الله لنا وضوحا. وكما ذكر الله قديمًا عن الأعياد إنها مواسمه هكذا تكلم الرب في العهد الجديد عن ساعته "أما يسوع قبل عيد الفصح و هو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم أحبهم إلى المنتهى"[9]، والكلام عن ساعة يسوع ليس تعبير عن لحظة الصليب ولكنه تعبير عن زمن يسوع الكائن كعهد جديد مؤسس في سر المحبة النابع منه وغير المنتهي إلا فيه. ولما كان الفصح هو تعبير عن العهد بين الله وخاصته؛ جاءت ساعة يسوع قبل تذكاره لتحمله جديدا في منطلق خلاصي لا يمكن أن يفهم إلا في سر حب الله للعالم.

4ـ السنة الطقسية: بناء مستمر للكنيسة في سر المسيح:
الكنيسة تقرأ كل يوم سر المسيح ، تحفظه وتكرز به، تقدس زمانها. هذه الحركة هي حركة دائرية تصنعها الكنيسة من عام إلي عام، ولكن هذه الحركة لا تدور في حلقة مفرغة تنتهي إلي نقطة البداية، ولكنها تنطلق من نقطة النهاية إلي بدء جديد في انطلاق تصاعدي لاكتشاف أعمق لسر الخلاص الأبدي. سر الخلاص المعبر عنه بموت وقيامة الرب هو محور الكنيسة وسلمها الذي يصعد عليه أبنائها في زمن ملكوت الله الكائن في داخل الكنيسة كمسكن الله مع الناس[10] الذي في يسوع المسيح نفسه من خلال سر تجسده كل البناء مركبا معًا ينمو هيكلا مقدسا في الرب انتم أيضا مبنيون معًا مسكنًا لله في الروح، والكنيسة ليست مجرد بناء من حجارة صماء ولكنها بناء من حجارة حية مؤسسة علي الرب نفسه كحجر زاوية البناء. وقبول حجارة الكنيسة الحية أي أعضائها سر موت وقيامة الرب هو التعبير الوحيد عن ديناميكية بنائها.

5ـ السنة الطقسية: حركة إسخاتولوجية:
يقول سليمان الحكيم: " صنع الكل حسنًا في وقته، وأيضًا جعل الأبدية في قلبهم التي بدونها لا يدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلي النهاية "[11]. جاء ابن الله إلي العالم لكي تكون لنا الحياة الأبدية،[12] وكلام الحياة الأبدية [13] الذي لا نسمعه إلا من ابن الله المتجسد والذي أودعه في الكنيسة، والذي أعطانا ملكوته داخلنا حتى نستطيع أن نفهم عمله. يتجلي هذا السر بوضوح حينما تقرأ الكنيسة القبطية سفر الرؤيا في ليله سبت الفرح، فهي تفهم موت المسيح علي أساس الأبدية لهذا تعلن أن حزنها يتحول إلي فرح، بدون الأبدية لن نفهم عمل الله .
  فالقراءات الكنسية ليست مجرد قراءات متوافقة مع أحداث تاريخية تتذكرها الكنيسة، ولكنها قراءات متوافقة مع أحداث تعيشها الكنيسة كحاضر له بُعد إسخاتولوجي.



التعابير الكنسية والمسيحية في الكنيسة القبطية للسنة الطقسية:
1ـ الإيقونات:
تشغل الإيقونة في الكنيسة مكان مميز سواء علي المستوي اللاهوتي أوعلي المستوي التعليمي، ويعد الفن القبطي هو أساس الفن المسيحي إذ أن الفن الفرعوني هو أقدم الفنون التعبيرية الدينية، وهذا لا يعني أبدًا أن الفن القبطي هو نسخة مسيحية للعبادة الوثنية، فنحن نتكلم عن مفردات بمعني الخطوط والألوان والأشكال كأدوات للفن، ولكن الإيقونة القبطية المسيحية تظل متفردة من جهة الموضوع.
الفرق الشديد بين الإيقونة بشكل عام والصورة الفوتوغرافية؛ هو أن الإيقونة تعبر عن موضوع الإيمان وسره، معبره عنه في أبعاد ديناميكية تتخطي المكان والزمان والتاريخ، أما الفن الفوتوغرافي هو تعبير إستاتيكي عن لحظة تاريخية منعزلة عن سر تفردها.
الإيقونة هي إعلان عن سر ابن الله الذي كان مكتوم قبل الدهور في ذاكرة حية يراها كل الناس في كل زمان، ومعبرة عن حضور الله في المادة من خلال تقديسها بزيت الميرون. هذا الحضور هو حضور شخصي تعبر عنه الإيقونة بالأدوات والرسم والفن وتكريم الإيقونة هو تكريم لصورة الله المنطبعة والظاهرة في الإنسان والمادة.

2ـ الدورات الكنسية:
الدورة الكنسية أو الزياح ـ كما يسمي في الطقوس الشرقية الأخرى ـ تعبير كنسي عن الكرازة وعالمية الرسالة. ويمكننا أن نري نوعين من الدورات الكنسية الأولي هي دورة البخور والثانية هي الدورة الاحتفالية، وسنحاول أن نتحسس ملامح النوعين في ضوء حركة الإعلان التي تقدمها السنة الطقسية.



دورة البخور الطقسية:
ما نقصده بدورة البخور الطقسية هي دورة بخور باكر وعشية ودورة بخور البولس والابراكسيس ومن خلال الصلوات المصاحبة لدورة البخور الطقسية يمكننا أن نفهم المخزى العبادي من مفهوم الدورات الطقسية، والصلوات نوعان جهرية يتلوها الشعب وسرية يتلوها الكاهن أثناء الدورة. والصلوات الجهرية هي:
1ـ أرباع الناقوس وهي تذكارات لطلب صلوات القديسين تبدء بدعوة السجود للآب والابن والروح القدس.
2ـ الذكصولجيات؛ وهي تمجيدات القديسين الذين اكملوا السعي.
3ـ الهيتينيات؛ وهي طلبات توسلية وتشفعية تعبيرًا عن الشركة بين الكنيسة سواء علي المستوي المنظور أو علي المستوي غير المنظور وتلك الطلبات مختومة بفعل السجود للثالوث القدوس.
4ـ مرد الابراكسيس؛ هو تذكار لحدث العيد وتذكار القديسين مختومة بتمجيد الثالوث القدوس.
الصلوات السرية التي يقولها الكاهن أثناء دورة البخور، وهي كلها طلبات لاستمطار مراحم الله علي الشعب في حياته العامة والروحية.

الدورة الاحتفالية: 
الدورات الاحتفالية في الكنيسة كدورة عيد القيامة ودورة عيدي الصليب والشعانين ودورة الاحتفال بالقديسين هي تحوي تعابير كرازية ببشرى الخلاص والانتصار وهي حركة طقسية قديمة جدًا نقرأ في يوميات إيجيريا الأسبانية في حديثها عن زمن الفصح:" عند الصباح، دائمًا كما في يوم الأحد يجري التطواف وما اعتيد عمله يوم الأحد، في الكنيسة الكبرى المعروفة بالمرتيروم التي في الجلجثة..."[14].
هذه الدورات الاحتفالية؛ تشترك فيها الكنيسة كلها من كهنة وشمامسة وشعب ـ وإن كان لظروف الأماكن والأعداد لا تسمح بهذا ـ تعبيرًا كرازيًا عن إعلان سر انتصار ابن الله المتجسد، إعلان سر الخليقة الجديدة في المسيح يسوع، إعلان زمن الكنيسة كملكوت الله الحاضر، إعلان استحضار ما لابد أن يكون في حاضر اسخاتولوجي تحياه الكنيسة كحقيقة إيمانية.
من هنا؛ يمكننا أن نقول: الدورات الكنسية سواء الطقسية أو الاحتفالية هي إعلان سر المسيح لكل العالم في شركة بين السماء والأرض.
 
1ـ الألحان الكنسية:
في حكمة بن سيراخ " وكان المغنون يسبحون بأصواتهم ويسمعون في البيت المعظم ألحانهم اللذيذة "[15]. ويقول أيضًا " جعل للأعياد رونقًا وللمواسم زينة إلي الانقضاء لكي يسبح اسمه القدوس ويرنم في قدسه منذ الصباح "[16]. وفي إرميا        " رنموا للرب سبحوا الرب لأنه أنقذ نفس المسكين من يد الأشرار "[17]. وفي أخبار الأيام " غنوا له، ترنموا له تحادثوا بكل عجائبه "[18]. نفهم من هذه الآيات مفهوم التسبيح للرب وبأي طريقة ولأي سبب، فالألحان الكنسية وطريقة التسبيح تحمل تعليم الكنيسة عن الخلاص، فكلمات الكتاب المقدس ومضمون قراءاتها نجده مشروحًا كفعل عبادة من خلال الألحان والتسابيح. والتسبيح هو عطية الله للبشر كما تقول أنافورا القديس غريغوريوس " أنت الذي أعطيت الذين علي الأرض تسبيح السيرافيم ". هذه العطية معطاة للبشر لأنهم منحوا أن يكونوا هيكلاً لله، أي أن التسبيح هو فيض نتاج حضور الرب الذي ملأ هيكله. والكنيسة تعلن حضور الرب من خلال الكلمات والأنّات، تعبر فوق المنطوق إلي مستوي المحسوس لتتلامس مع الجنود الملائكية في تسبيح تصير معه الأرض سماء.
هكذا في نهاية الأمر نجد أن الكنيسة تقدم كل ما لديها من إمكانيات للتعبير عن سر الله للعالم، حيث يكون الاحتفال الليتورجي هو محاولة اكتشاف سر حضور الله علي مستوي الإعلان الافخارستي.

"يتبع"


يمكنك مشاهدة الأعياد الكنسية والسنة الطقسية (1) من هنا




1 عب 1: 1-2
2 غلا 4: 4-5
3 كو 1: 26
4 رو 16: 25-26
5 أنظر أوشية سر الكاثوليكون في الكنيسة القبطية
6 نفس المرجع السابق
7 مت 28: 20
8 أع 17 : 30
9 يو 13: 1
10 رؤ21: 3
11 جا 3: 11
12 يو 3 :16
13 يو 6 : 68
14 ايجيريا يوميات رحلة، منشورات مجلس كنائس الشرق الأوسط 1994، ص96.
15  سيراخ 50: 20
16 سيراخ 47: 12
17 إر20: 13
18 1 أخ 16: 9

Post a Comment

أحدث أقدم