القراءات الكنسية (1)


القراءات الكنسية (1)
مقدمة
         تقدم لنا الكنيسة القبطية برنامجًا خصبًا على مدار السنة من خلال القراءات الكنسية. إن هذه القراءات بترتيبها البديع المتناسق، مع براعة وحذق في تخير فصولها من الكتاب المقدس لتتكامل مع بعضها، سواء في قراءات يوم، أو برنامج شهر أو فصل من السنة. البرنامج السنوي متكامل ككل، سواء في قراءات الآحاد أم قراءات الأيام، أو قراءات الأصوام والأعياد. هذا التكامل يعطى فكراً لاهوتياً واضحاً، كما أنه يحوى تراكماً روحياً يحمل كل غني وزخم الروحانية الأرثوذكسية وينقلها عبر الزمان لأجيال كثيرة.
         الكنيسة تستخدم الكتاب المقدس في كل صلواتها الطقسية، فالكتاب هو موضوع الصلاة حسب المفهوم الأرثوذكسي. إن كلمة الله مع الصلاة هي القوة الفاعلة في الأسرار " كل شئ يتقدَّس بكلمة الله والصلاة" (1تي5:4). لذلك كل صلوات الكنيسة الليتورجية تحتوي على قراءات من الكتاب، والتي تقدِّسنا " في كلمة حق الإنجيل". الروح القدس يحل في كل أسرار الكنيسة. إن ممارسة الأسرار دون اختبار لقوة الكلمة تُعطِّل انتفاعنا بعمل الروح القدس، " فكما قبلتم المسيح يسوع الرب اسلكوا فيه" (كو6:2). فيلزم أن نسلك في كلمة حق الإنجيل حتى تكون عبادتنا بالروح والحق. يشَكِّل الكتاب المقدس في صلوات القداس عنصرًا رئيسيًا، فالكنيسة تقدم لنا أولا المسيح حاضرًا بكلمته ثم في جسده ودمه. فكلمة الله المقروءة في الكنيسة تحمل سر حضور المسيح، ثم تقدمه لنا مبذولاً عنا وحاضرًا في الجسد المكسور والدم المسفوك. لذلك تمارس القراءات في الكنسية بروح العبادة الجماعية "الليتورجية" مع الخشوع اللائق بحضور المسيح. يقول القديس مقاريوس: [فكما أنه في الكنيسة المنظورة ما لم تتم تلاوة القراءات والمزامير وتكمل ليتورجية الكلمة وكل ترتيبات طقس الكنيسة فلن يمكن للكاهن أن يكمل السر الإلهي للجسد ودم المسيح وبالتالي لن يمكن أن تتم الشركة ولن يتقدس السر وتكون العبادة حينئذ ناقصة].[1]
         إن هذه القراءات تحمل سر الإنجيل، وتكشف عن روح الإلهام التي كتبت بها الكتب المقدسة، فهي نفس الروح المُلهِمة التي رُتبت بها هذه الفصول من الكتاب معًا، لتشرح وتفسر الكتاب بالكتاب. المنهج الأرثوذكسي لا يعتمد على آية واحدة للدراسة اللاهوتية والروحية للكتاب المقدس، لذلك تقدم الكنيسة في كل يوم مجموعة من القراءات تحمل فكرا روحيًا وعقيديًا واحدًا في نسيج كيانى متكامل. تقدم الكنيسة كل يوم خمسة قراءات في فصول القداس: البولس "فصل من رسائل القديس بولس الرسول"، والكاثوليكون "فصل من الرسائل الجامعة" والإبركسيس "فصل من أعمال الرسل"، ثم المزمور والإنجيل. قراءات القداس الخمس بالإضافة لمزمور وإنجيل كل من عشية وباكر تحمل أفكارا مشتركة تعطى رؤية جديدة أكثر عمقًا للكتاب. إن ترتيب فصول قراءات كل يوم تُبرز معاني ومفاهيم لا يمكن أن نلحظها لو حاولنا أن نقرأ كل فصل على حدة. وهي تحمل لنا رؤية آبائية لمعاني الكتاب قد ترجع لعصر الرسل، ثم تمتد حاملة تراكمات فكر الآباء عبر الأجيال. على ضوء هذه القراءات نرى الكتاب المقدس يعرض الفكر اللاهوتي الأرثوذكسي في قالب روحي نافع ولازم لحياتنا العملية. كما يقدم لنا أسرار التدبير الإلهي "أسرار التجسد والفداء"، وتطبيقاتها العملية في أسرار الكنيسة. كل هذا معروض بوضوح كفكر كتابي أصيل.
         ومع هذه القراءات الكتابية تقدم لنا الكنيسة السنكسار الذي يُقرأ بعد أعمال الرسل. فأعمال الآباء القديسين هي امتداد طبيعي لأعمال الرسل، الذين غلبوا العالم بالوصية. وبذلك تقدم الكنيسة لنا الكتاب المقدس بكل تعاليمه وقيَّمه، معاشًا حيًا في التاريخ، غالبًا العالم عبر الزمان. فمن خلال حياة الآباء القديسين الذين عاشوا الوصية استنارت برية هذا العالم بنور تعاليم المسيح، وتقدست الأرض باستعلان بر الله عاملاً في الضعف البشرى.
         ورتبت الكنيسة أن تختم هذه القراءات بالعظة حيث يلزم شرح المعاني الروحية التي وردت بالقراءات، طبقاً للمنهج الذي تقدمه الكنيسة على مدار السنة الليتورجية. فالعظة يجب أن توضح وتُفَصِل المعاني الروحية التي في القراءات، كترتيب الكنيسة في يوم ما أو في مناسبة معينة، دون ابتكار أو استحداث. ويجب أن تُقدَّم العظة بنفس روح العبادة الليتورجية اللائقة، لتختم قداس الكلمة، وتعد السامعين للدخول إلى قداس الإفخارستيا. لذلك يجب أن تقدم العظة في وقتها المحدد، قبل تقديس القرابين وليس بعد التناول. فليس هناك مجال لحديث الناس أو الوعظ بعد التناول واكتمال العمل السرائري.
         إن هذه القراءات بتنسيقها المبدع تشهد بعمل الروح القدس، ليس فقط في الآباء الذين وضعوها، بل وأيضا في الكنيسة التي حافظت عليها. فبالمداومة على تقديمها تخصب فكر أبنائها عبر الأجيال. فتحافظ على استمرارية سريان الحرارة الروحية بنفس الدرجة، وتسلم للأجيال فكرًا لاهوتيًا دقيقًا وإيمانًا مستقيمًا يرد قلوب الآباء للأبناء. فالقراءات لها وظيفة تربوية وتعليمية، وعلى ضوء مفاهيمها تتسلم الأجيال الحقائق اللاهوتية في يسر وسهولة، وتغتذى باللبن العقلي فتنمو به في معرفة الحق. المسيحية حياة تُسلَّم وليست مجرد معرفة تُلقَّن، والقراءات الكنسية بتنظيمها تضطلع بهذه المهمة، وقد ثبت فاعليتها في ظروف ثقافية واجتماعية متباينة، وأحوال سياسية متغيرة ومتقلِّبة، وفي أوقات عصيبة.
         من العجيب حقاً أن تقدم لنا الكنيسة هذه القراءات في طقس خشوعي ولحن بديع وقور يحمل أنَّات الروح القدس وينقل لنا لظى لهيبه، فبقدر ما يبكت النفس للتوبة، يأخذها لروح التسبيح فيدخل بها مع عبق البخور المتصاعد لشركة السماويين.
إن هذا التراث الثمين الذي تسلمناه ليس هو موضع تباهي وفخر، بقدر ما هو مسئولية أمام الله وأمام تاريخ الخلاص المقدس. لا بد أن نُظهر جميعنا أمام كرسي المسيح لنقدم حساب الربح والخسارة عن الوزنات التي وصلت أيدينا، كيف تاجرنا بها في حياتنا؟ وكم طرحنا منها على موائد الصيارفة؟ إن مسئولية هذا التراث هي مسئولية جماعية، مسئولية القارئ والسامع، الكاهن والشماس والمرنِّم، الواعظ والمعلم، الكاتب والباحث. وتتمثل المسئولية بالأكثر في تقديم الكلمة صحيحة مع تفصيل كلمة الحق باستقامة، لتوضيح ما فيها من قيمة دون ابتكار أو اجتهاد شخصي.


         ومن الضروري أن تقدم العظة بنفس الروح الليتورجية الأرثوذكسية التي للقراءات نفسها. ما فائدة القراءات لو اخترنا منها آية واحدة ليدور حولها الحديث مع إهمال كل التعليم المطلوب تقديمه طبقاً لبرنامج الكنيسة المتكامل؟ فالفائدة من القراءات تتحقق عندما نركز على التعاليم الروحية واللاهوتية التى تحملها هذه القراءات بدلاً من الحديث عن أخلاقيات عامة لم تقصدها القراءات.    
المسيح بنفسه هو الذي وضع منهج التفسير، " ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب"، فالعظة هي تفسير الكتب لاستعلان سر المسيح، والنتيجة، " فلما اتكأ معهما أخذ خبزا وبارك وكسر وناولهما. فانفتحت أعينهما وعرفاه ثم اختفى عنهما. فقال بعضهما لبعض ألم يكن قلبنا ملتهبا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب" (لو24: 30ـ32). إن فاعلية الكلمة فى نفوس السامعين تظهر من التهاب القلب ونخسه للتوبة، الذي يُهيئ لانفتاح عين النفس لتري المسيح وتميزه عند كسر الخبز.
         طقس البخور أثناء القراءات هو طقس التوبة، فالكتب تفتح عين النفس لتعدها للتوبة. ويختم قداس الكلمة بالثلاثة أواشي الكبار. الأواشي تختم وتغلَّف كلمة لله بالصلاة والطلبة، فصلاتنا إنجيلية وإنجيلنا صلاة. لقد وُضعت هذه القراءات لنقرأها معاً في الكنيسة في شكل جماعي (ليتورجي) بروح الصلاة، فنسمعها ونفهمها معاً بوعي كي ننمو بالكلمة في المعرفة ككنيسة واحدة بفكر واحد. وتسرى نسمتها فينا معا، نسمة حياة لحياة أبدية. ومع عبير بخورها نستنشق روحا واحدة، تقدس قلوبنا في الحق، وتوحد نفوسنا بالبر، لنبلغ لسر شركة الكنيسة الواحدة المقدسة الجامعة الرسولية، جسد المسيح غير المنقسم.
         لقد عنيت كل الكنائس سواء أرثوذكسية أو كاثوليكية أو بروتستانتية بالقراءات، حتى أن كثيراً من الجامعات اللاهوتية بها قسم خاص بالقراءات الكنسية، لما لها من أهمية سواء من الناحية العلمية أو التربوية. هناك دراسات علمية لمقارنة مناهج الكنائس المختلفة، وأثرها على التعليم. إن دراسة مناهج الكنائس التقليدية أظهر الكثير من التشابه وخاصة في قراءات المناسبات مما يوضح أن تنظيمها يرجع لعصور ما قبل انقسام الكنيسة. 
         بالرغم من أن منهج كنيستنا القبطية يعتبر من أعرق وأدسم هذه المناهج، بل وقد يكون أقدمها جميعا، إلا أنه حتى الآن لم يأخذ حظه من الدراسة العلمية، ولم يحظى بالاهتمام اللازم سواء من الكنيسة أو من المعاهد القبطية، وحتى الآن لم يتنبه له أحد علماء الغرب حتى يهتم به فيقدمه للعالم. إلا أنه قد صدر كتاب لعالم فرنسي في هذا الموضوع، وهناك بحث آخر بالألمانية، ولا يوجد حتى الآن أي مرجع علمي باللغة الإنجليزية. أما من جانب الكنيسة القبطية ومؤسساتها العلمية فلا يوجد أي محاولة جادة حتى الآن للاهتمام بالقراءات الكنسية، هذا الموضوع الحيوي والضروري لخدمة الكنسية.
         لقد ظهر كتاب واحد عن هذا الموضوع في الخمسينات من القرن العشرين وهو كتاب كنوز النعمة (في سبعة أجزاء) للمتنيح الأرشدياكون بانوب عبده. وقد بذل المؤلف جهدا كبيرا مشكورا لإصدار هذا الكتاب، في وقت لم تكن فيه الدراسات الآبائية ولا مناهج البحث العلمي وإمكانياته متوفرة لدى الكاتب القبطي. وإن كان هذا الكتاب قد سد فراغا في تلك الأيام ومازال، فما أحوج الكنيسة اليوم إلى باحثين متخصصين وعلماء لغات يكرسون أنفسهم لدراسة هذا الموضوع البكر والخصب والذي يستوعب الكثير جدا من الأبحاث والدراسات المتخصصة.

لدراسة القراءات الكنسية يلزم أن تتم الدراسة على عدة مستويات منها:
دراسة رأسية للقراءات: وتشمل دراسة قراءات اليوم الواحد للوصول للفكرة المشتركة التي تجمع قراءات كل يوم. هذه الدراسة تشمل قراءات الأيام والآحاد والأعياد والأصوام مع دراسة الفكرة العامة لكل نوع من القراءات على حدة.
دراسة أفقية للقراءات: وتشمل دراسة العلاقة الأفقية ما بين قراءات الآحاد والأعياد على مدار السنة لتكون مناهج دراسية مختلفة رتبتها الكنيسة لتقدم برامج سنوية روحية لاهوتية تربوية متكاملة، بها تثري الفكر الروحي للكنيسة وتنقل إيمانها عبر الأجيال. 
دراسة تاريخية للقراءات: يلزم دراسة المخطوطات القديمة لمعرفة كيف نشأت هذه القراءات وتدرجت، والتغيرات التي طرأت عليها عبر التاريخ، والظروف والعوامل المؤثرة التي دعت للتغيير. لقد اهتمت كل الكنائس في العالم بتسجيل تاريخ ليتورجياتها وتاريخ واضعي كل نص ولحن فيها، ولكن لم يتم حتى الآن مثل هذا العمل هنا فى مصر. ربما يرجع ذلك إلى أن واضعي هذه النصوص من الآباء كانوا ينكرون أنفسهم. ولكن الآن حان الوقت للدراسة العلمية التاريخية لليتورجيات الكنيسة وكل كتبها الطقسية وألحانها وخاصة القراءات الكتابية وتاريخ تنظيمها. وهذا يحتاج إلي دراسة علمية متخصصة للمخطوطات المكتوبة بلغات مختلفة.       
دراسة آبائية للقراءات: هذه القراءات وضعها الآباء عبر الأجيال لذلك يلزم استشارة المفهوم الآبائي للكتاب حتى يمكننا أن نفهم المقصود من تجميع القراءات بهذه الصورة، ومعرفة الأبعاد الروحية واللاهوتية العميقة من مجموع القراءات وما تحويه من تعاليم. 
دراسة مقارنة للقراءات: اهتمت كل كنائس العالم بالقراءات الكنسية منذ أقدم العصور فنجد برامج للقراءات في كل الكنائس مشابه أو مخالف لبرنامج قراءات الكنيسة القبطية. لذلك يلزم دراسة برامج قراءات الكنائس الأخرى وخاصة برامج الكنائس التقليدية، ومضاهاتها ببرنامج الكنيسة القبطية. لهذه الدراسة أهمية كبيرة في تحديد زمن القراءات. فمن الملاحظ أن هناك الكثير من القراءات المشتركة بين الكنائس التقليدية، خاصة قراءات الأعياد مما يرجح أن هذه القراءات قد وضعت في زمن قديم يرجع لما قبل انقسام الكنيسة.                                                     (يتبع)




[1] من عظة 52 من المجموعة الثانية من عظات القديس مقاريوس الكبير.

Post a Comment

أحدث أقدم