الأعياد الكنسية والسنة الطقسية (1)



الأعياد الكنسية والسنة الطقسية

تمهيد:
تحتل الأعياد في كل العالم، مكانة هامة، فالدول، والمؤسسات، والعائلات، والأفراد، كُلٍ منهم يحتفل بعيد خاص به، والعيد في حد ذاته تذكار لحدث، حدث مرة واحدة وغير قابل للتكرار بالنسبة للمحتفلين به. وبعد أن يتحول الحدث إلي عيد؛ يتم طرح أسئلة عديدة منها : لماذا نحتفل بهذا العيد ؟! وهذا الحدث الذي تم في زمن بعيد ما مدي تأثيره علينا اليوم وعلي أولادنا غداً؟ .وللإجابة علي أسئلة من تلك النوعية نحتاج أن نعرف مَنْ الذي قام بالحدث؟، ومتى؟، وما هي طبيعة المؤسسة التي تهتم بهذا الحدث حتى تستثمر هذا الحدث؟ .والواقع أن الأعياد الكنسية تحتاج أن تقرأ قراءة تجعلنا نجيب علي هذه الأسئلة كلها.

الأعياد الدينية في العهد القديم:
         نعرف من سفر اللاويين ما يلي "وكلم الرب موسي قائلا: كلم بني إسرائيل وقل لهم مواسم الرب التي فيها تنادون محافل مقدسة هذه هي مواسمي "[1] . مواسم الرب ، منسوبة إليه، تحصل علي قوتها منه فهو يدعوها "مواسمي" وعلي الجماعة ان تذهب فيها إلي المحفل المقدس حيث سكن الرب في وسط شعبه . فهذه الأعياد هي تذكار لعمل الله، وكان أول هذه الأعياد هو التذكار الأسبوعي ليوم السبت، وهو ما سنقف عنده بعد قليل. ويكمل الرب شرح الأعياد التي عينها، فالعيد هو عيد الرب، وطريقة الاحتفال قد حددها الله نفسه في تعبيرين الأول "محافل مقدسة". فاجتماع الشعب للوقوف في حضرة الله هو ما يميز الاحتفال، والتعبير الثاني "مواسمي"، وهو تعبير عن انتساب أفراح البشر لله، أي دخول الله إلي التاريخ البشري، حضور الله  في زمن الإنسان وصيرورة زمن الإنسان زمانه الخاص، فيتحول الزمن كمسار يحمل خبرة حضور الله في وسط الجماعة. نعود الآن إلي العيد الأول والاهم في العهد القديم ، يوم السبت "ستة أيام تعمل و تصنع جميع عملك و أما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك لا تصنع عملا ما أنت و ابنك و ابنتك و عبدك و أمتك و بهيمتك و نزيلك الذي داخل أبواب لكي يستريح عبدك و أمتك مثلك لان في ستة أيام صنع الرب السماء و الأرض و البحر و كل ما فيها و استراح في اليوم السابع لذلك بارك الرب يوم السبت و قدسه"[2]. وهنا التوضيح الكتابي لتقديس يوم السبت أنه يوم تكميل الخلقة ، ويكتمل التوضيح الكتابي حينما يعيد الله التذكير بالشريعة " أحفظ يوم السبت لتقدسه كما أوصاك الرب إلهك ستة أيام تشتغل و تعمل جميع أعمالك وأما اليوم السابع فسبت للرب إلهك لا تعمل فيه عملا ما أنت و ابنك و ابنتك و عبدك وأمتك و ثورك و حمارك و كل بهائمك و نزيلك الذي في أبوابك لكي يستريح عبدك وأمتك مثلك و اذكر انك كنت عبدا في ارض مصر فأخرجك الرب إلهك من هناك بيد شديدة و ذراع ممدودة لأجل ذلك أوصاك الرب إلهك أن تحفظ يوم السبت أكرم أباك وأمك كما أوصاك الرب إلهك لكي تطول أيامك و لكي يكون لك خير على الأرض التي يعطيك الرب إلهك[3] هنا نجد إكتمال المعني، إذ يؤكد على أن حفظ السبت بسبب خلاص الله للشعب وهنا نرى الارتباط أيضًا بين الخلق والخلاص وحفظ يوم السبت، لأنه يوم تذكار إكتمال الخلقة بخلاص الشعب، كما أن السبت أيضا هو علامة عهد بين الله والشعب، وتعبير عن أمانة الشعب لله لأنه حفظ تذكار خلاصه ، فيقول الله لموسي: "و أنت تكلم بني إسرائيل قائلا سبوتي تحفظونها لأنها علامة بيني و بينكم........... ليصنعوا السبت في أجيالهم عهدا أبديًا"[4]. لقد أعطي الله إسرائيل السبت ليكون علامة علي أمانه الشعب، فيه تتذكر الجماعة في المحافل المقدسة عمل الخالق والمخلص، فاستحق أن يدعي "يوم الرب". وبعد فترة من الزمن أصبح يوم الرب لا يعبر فقط عن السبت الحرفي، ولكن أيضاً عن السبت الرمزي ،الذي هو التعبير والهدف النهائي من السبت وهو انتظار اليوم الذي يحققه الرب لأجل شعبه، وصار يوم الرب عند الأنبياء الذين عاينوا زمن خيانة الشعب للعهد هو يوم الدينونة [5]، وهنا أُعلن يوم الرب على أنه يوم تدخل الله في تاريخ الإنسان ليضع حداً لضياعه ، وهذا يتضح من مزمور 118 "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب نبتهج و نفرح فيه، آه يا رب خلص، آه يا رب أنقذ"[6]. ويوم دخول الله إلي تاريخ الإنسان هو يوم انتصار الله للإنسان، فكان تذكاره هو يوم للفرح عوض يوم الحزن ،هو يوم الابتهاج عِوض يوم النوح ، هو يوم التهليل "هوشعنا". وبهذه الـ"هوشعنا" تتحول أحداث الزمان كله من انكسارات الشعب وإنتصار الله للشعب إلي رجاء تتهلل به الجماعة معلنه انه في مثل هذا الزمان صار لآبائنا، وسيصير لنا بالمثل، وكأن الزمن بماضيه وحاضره صار لحظة تحتضنها الجماعة التي تؤمن بحضور الله في وسطها .هذا الغني لم يدركه اليهود، ولم يفهموا أبعاده، فقط، نظروا إلي أمور أخرى كانت تشغلهم.

الأعياد في الكنيسة
1ـ يوم الأحد:
          كما تكلم الله سابقاً ودعي الأعياد اليهودية بأنها مواسمه وأمر الجماعة، قائلاً: "يكون لكم هذا اليوم تذكارا فتعيدونه عيدًا للرب في أجيالكم تعيدونه فريضة أبدية"[7]. هكذا قال لتلاميذه "إصنعوا هذا لذكري"[8] وهنا التحول الهام في مفهوم الذكري، فعشاء الفصح اليهودي كان تذكاراً لماضي مجيد ، ومجرد ترجي لمستقبل أفضل من حاضر مرير[9]، بينما يقول القديس هيبوليتوس " ذبيحة الفصح  الحقيقي ، بالنسبة لنا ، هي بدء الحياة الأبدية"[10] ولهذا تصرخ الكنيسة، ففيما نحن نصنع ذكر ألامه المقدسة، وقيامته من الأموات وصعوده إلي السموات وجلوسه عن يمينك أيها الآب، وظهوره الثاني الآتي من السموات ...."[11] ، وعلي هذا المفهوم الأساسي للكنيسة الملتفة حول الإفخارستية تأسس العيد الأول في الكنيسة وهو يوم الأحد، أو يوم الرب، فكما كان هدف الرب من حفظ يوم السبت انه تذكار لإنعام الله بالخلق والخلاص، هكذا أعلنت الكنيسة أن يوم الأحد هو يوم الخلق الجديد هو اليوم الثامن، الذي أتم الله فيه عمله، هو اليوم الذي كان سائرا فيه يوحنا فشاهد القائم كأنه مذبوح وسط السبع مناير ، هو اليوم الذي تتهلل فيه كل الكنيسة "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب " صنعه "لنفرح ولنتهلل به" هو اليوم الذي عرفته الكنيسة كترتيب عبادي مؤسس علي حدث حضور الابن الكلمة بيننا[12] ، علي صيرورة غير الزمني زمنيا [13]، فالكنيسة المجتمعة حول جسد الرب ودمه في يوم الرب تقر بأنها مجتمعة في يوم إعلان عهد جديد "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي" [14] أمين ...بموتك نبشر...." ومن هذا المفهوم الجديد لتذكار يوم الرب انطلقت الكنيسة مؤسسة أعيادها علي حدث الخلاص وخاصة بعد زمن قسطنطين الملك، واكتشاف الأماكن التي عاش وتألم فيها السيد المسيح وقام، فقبل إكتشاف القبر المقدس وبناء كنائس في الأماكن المقدسة كان الاحتفال مختلفاً، وهذا أثر بدوره علي طريقة الاحتفال ولكن ظلَّ الجوهر واحد، " لان فصحنا أيضًا المسيح قد ذبح لأجلنا إذا لنعيد ليس بخميرة عتيقة و لا بخميرة الشر و الخبث بل بفطير الإخلاص و الحق "[15] وتذكر السائحة الاسبانية ايجيريا[16] تفاصيل الإحتفال بالأعياد في أورشليم في القرن الرابع . وهكذا منذ القرون الأول للمسيحية أسست الكنيسة أعيادها منطلقة من مفهوم أساسي وهو مفهوم "يوم الرب" ولهذا نجد التشابه الشديد في كثير من التفاصيل في الطقس القبطي بين الأعياد السيدية ويوم الأحد.

2ـ السنة الطقسية
لا يمكننا معرفة الهدف من القراءات الكنسية بدون النظر إلي النصوص الليتورجية المصاحبة لهذه الصلوات، فالصلوات الطقسية ثابتة والنصوص الكتابية متغيرة ، فيمكننا الإستدلال علي هدف المتغيرات من إدراك الثوابت، كما إننا لا نستطيع فِهم الصلوات الليتورجية المصاحبة للقراءات بمعزل عن الصلوات الليتورجية الأُخرى، هذه القراءة الشاملة للصلوات هي التي تقودنا إلي معرفة المغزى اللاهوتي والفكري للقراءت الكنسية علي مستوي السنة الطقسية، وأهم معالم الصلوات الطقسية المصاحبة للقراءات نستطيع أن نحددها في أربعة عناصر وهي:
1ـ نداء.                 2ـ طلبة.
3ـ خاتمة تحمل في بعض الأحيان نتيجة.                 4ـ تمجيد للثالوث.
وإليك جدول يوضح هذا الأمر:
النص الليتورجي
النداء
الطلبة
خاتمة
سر البولس
يا رب المعرفة ورازق الحكمة الذي يكشف الأعماق من الظلمة والمعطي كلمة للمبشرين.
أنعم علينا وعلي شعبك كله بعقل غير منشغل وفهم نقي.
لكي نعلم ونفهم ماهي منفعة تعاليمك المقدسة التي قرئت علينا الأن من قبله (ق.بولس) ...ممجدين اسمك القدوس + تمجيد.
سر الكاثوليكون
أيها الرب إلهنا من قبل رسلك القديسين أظهرت لنا سر أنجيل مجد مسيحك.
نسألك يا سيدنا اجعلنا مستحقين نصيبهم وميراثهم، وأنعم علينا كل حين أن نسلك في أثارهم، ونشترك معهم في الأعراق (الأتعاب) التي قبلوها علي التقوى.
احرس قطيعك واجعل هذه الكرمة تكثر.  
سر الابركسيس
يا الله الذي قبل إليه محرقة إبراهيم.
اقبل منا أيضا يا سيدنا محرقة هذا البخور، أرسل لنا عوضه رحمتك الغنية، اجعلنا أن نكون انقياء ...
اجعلنا مستحقين أن نخدم أمام صلاحك يا محب البشر بطهارة وبر كل أيام حياتنا.
نلاحظ من هذه الصلوات ملامح هامه وهي:
1-  الإعلان الإلهي في القراءات.
2-  طلبة الكنيسة للفهم والإستيعاب.
3-  طلبة الكنيسة أن تحافظ علي هذا الإعلان كما حافظ عليه الرسل.
4-  طلبة الجماعة لنعمة النقاوة لخدمة الله محب البشر.
5-  كل هذا لمجد الثالوث القدوس.
نكمل إيضاح العناصر المصاحبة للإنجيل، مع ملاحظة لوجود تشابه بين هذه العناصر وبعض العناصر الليتورجية الأُخرى:
الصلوات
المصاحبة للإنجيل
العناصر الليتورجية الأخرى
الثلاثة تقديسات
أجيوس 3 دفعات موجهة لأقنوم الابن.
قدوس(3) السماء والأرض ....مرد في بدء الانافورا.
أوشية الانجيل
أشتهوا أن يروا ما انتم ترون و أن يسمعوا ما انتم تسمعون ...

دورة الإنجيل
الآن يا سيد تطلق عبدك بسلام لأن عيني قد ابصرتا خلاصك.
دور القرابين في بدء القداس.
بدء قراءة الانجيل قبطيا
ربنا وإلهنا ومخلصنا وملكنا كلنا يسوع المسيح ابن الله الحي له المجد إلي الأبد.
سر حلول الروح القدس : ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح ، يعطي لمغفرة الخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه.
مرد مبارك الآتي باسم الرب
في بدء الإنجيل.
يقوله الشعب حين يُقدم له الكاهن الأسرار أثناء التناول حاملاً إياها بيديه.
هناك تناغم هام في الكنيسة بين قراءة الإنجيل والذبيحة، إبداع ليتورجي وتوافق لاهوتي ، ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح يظهر لنا أولاً في الإنجيل، لهذا يعلن الكاهن أنه طوبي لأعيينا لأنها ستبصره بعد أن تسمعه، لا أريد الإطالة في الحديث عن التوافق الليتورجي بين قداس الكلمة والأنافورا. ولكن في عجالة، أُشير لوجود تشابه بين الطقس القبطي والطقس البيزنطي في دورة الإنجيل ودورة القرابين، فدورة الإنجيل في الطقس البيزنطي تسمي بالدخول الصغير ونفس الطقس يتم بالقرابين ويسمي بالدخول الكبير .
نستطيع من الاستعراض السابق أن نستنج فكرة لاهوتية وكتابية للقراءات الكنسية في الكنيسة القبطية بشكل خاص وفي الطقوس الشرقية بشكل عام وسنتكلم عن هذه العناصر بالتفاصيل لاحقًا:
1-  السنة الطقسية حركة إعلان.
2-  السنة الطقسية الذاكرة الحية لعمل الخلاص.
3-  السنة الطقسية تقديس للزمن.
4-  السنة الطقسية بناء مستمر للكنيسة في سر المسيح.
5-   السنة الطقسية حركة أخروية.
"يتبع"






1 لاويين 23: 1-2
2 خروج 20: 9-11
3 تثنية 5: 12-15
4 خروج31: 13-16
5 اشعياء  13 :  6  ، حزقيال  13 :  5 ، يوئيل  1 :  15، عاموس  5 :  18 ، صفنيا  1 :  7.
6 مزمور118: 24، 25 سنعود للكلام عن هذا المزمور حينما نتكلم عن الاعياد في الكنيسة.
7 خر  12 :  14.
8 لو  22 :  19 ، 1كو  11 :  24 ، 1كو  11 :  25.
[9] C.GIRAUDO،Eucaristia per la chiesa ،Roma 1989, ،p118-p160.
10   القمص تادرس يعقوب ملطي ، المسيح في سر الافخارستيا ،1972 ص 141.
11  انافورا القديس باسليوس القبطية، الخولاجي المقدس.
12 يو1: 14.
13 ثيؤطوكية يوم الأربعاء، الابصلمودية السنوية.
14 لو 22: 20.
15  اكو 5: 7-8.
16 هي نبيلة أسبانية عاشت في القرن الرابع الميلادي وقامت برحلة إلي أورشليم في حوالي العام 381 وانهتها في العام 384 وقامت بكتابة الطقس الذي شاهدته أثناء رحلتها ، وأكتشف هذا المخطوط في سنة 1884 علي يد العالم الإيطالي غاموريني ونُشر لأول مرة بطريقة علمية مع ترجمة فرنسة في مجموعة " الينابيع المسيحية" والمعروفة اختصاراً"SC  " سنة 1984 وتمت ترجمته إلي العربية وصدر ضمن سلسلة " أقدم النصوص المسيحية"  التي تصدرها رابطة معاهد اللاهوت في الشرق الأوسط ،ويحمل رقم5 ،وترجع أهمية هذا الكتاب إلي اكتشاف الجذور الليتورجية في القرن الرابع .



يمكنك مشاهدة الأعياد الكنسية والسنة الطقسية (2) من هنا

Post a Comment

أحدث أقدم