تأمل في رحلة صوم الميلاد: استقبال الكلمة المتجسد في قلوبنا
(الرب يعيد عليكم الأيام بكل خير وبركة ويفرح قلوبكم ويعطيكم صوماً مقبولاً أمام الله وكل عام وأنتم بألف خير وبركة)
يمثل صوم الميلاد فترة روحية عميقة الأثر في حياة المسيحيين، حيث ينطلقون في رحلة استعداد وتوبة لاستقبال ميلاد السيد المسيح. هذا الصوم، الذي يمتد لثلاثة وأربعين يومًا وينتهي في السابع من يناير الموافق التاسع والعشرين من شهر كيهك، يحمل في طياته معانٍ روحية وتاريخية غنية تستحق التأمل والتفكر.
لماذا نصوم ثلاثة وأربعين يومًا؟
يعود الأصل في مدة هذا الصوم إلى أربعين يومًا، تشبهًا بموسى النبي الذي صام أربعين يومًا ليتسلم كلمة الله المكتوبة على لوحي الحجر. فنحن نصوم أربعين يومًا أيضًا لنستقبل كلمة الله المتجسد، المولود من مريم العذراء. فكما أن هناك كلمة الله المقروءة والمسموعة، هناك أيضًا كلمة الله المأكولة، عندما نتناول جسد الرب ودمه الأقدسين في سر الإفخارستيا.
أما الثلاثة أيام المتبقية، فقد أُضيفت إلى مدة الصوم في عهد البابا إبرام بن زرعة السادس والستين (925-979 م) تذكارًا للأيام الثلاثة التي صامها الأقباط من أجل معجزة نقل جبل المقطم. وقد انتهت هذه الأيام بنقل الجبل بالفعل، فحفظ الأقباط هذا التذكار كشهادة حية للتاريخ وقوة الإيمان.
طقس الصوم وألحانه:
يتميز صوم الميلاد بطقسه الجميل وألحانه الرائعة، والتسابيح والمدائح البديعة التي تُرتل خاصة في شهر كيهك. فالكنيسة من خلال هذا الصوم تُعدنا روحيًا لنحيا أفراح ميلاد المسيح الذي انتظرته الأجيال بترقب وشوق. فبالصوم نتقدس بالتوبة، ويتقدس الجسد والفكر والروح.
هذا الصوم يُعتبر من الدرجة الثانية، أي يُؤكل فيه السمك ما عدا يومي الأربعاء والجمعة. وهو رحلة استعداد حقيقية، تُعد فيها الكنيسة وتهيئ شعبها لاستقبال الكلمة المتجسد ليحل بالإيمان في قلوبنا، وندرك عظمة هذا السر الإلهي، سر "الله ظهر في الجسد".
تهيئة المذود في قلوبنا:
في هذا الصوم، نكون كمن يفرش ويهيئ المذود لاستقبال المولود الإلهي، ولكن هذه المرة في قلوب بسيطة متواضعة، قلوب خاشعة مصّلية متهللة، مداومة على التسبيح والصلاة، لكي يأتي المخلّص ويسكن فيها، فيجعل القلب سماءً ومكانًا لسكنه. فصوم الميلاد هو التسبيح والسهر والفرح بانتظار ميلاد المخلّص.
الصوم هو وسيلة روحية نقترب بها من الله ونتوب عن الخطايا والضعفات التي تبعدنا عنه، وندرب أنفسنا على الشبع بكلمة الله والفرح بمحبته. فلنصم هذا الصوم بصورة مقدسة ومقبولة، مستعدين لمجيء المسيح داخل قلوبنا ليملك على حياتنا.
التسبيح في صوم الميلاد:
يتميز صوم الميلاد بشهر كيهك، شهر التسابيح والألحان المبهجة الجميلة التي تُفرح القلب. فالتسبيح هو أرقى أنواع الصلوات، فهو شكر وتمجيد لله مع طلب مغفرة خطايانا فقط.
التسبيح هو عمل الملائكة وهم يشاركوننا فيه، فنحن نصلي للرب يسوع قائلين: "أنت الذي أعطيت الذين على الأرض تسبيح السيرافيم، إقبل منا نحن أيضًا أصواتنا مع غير المرئيين، إحسبنا مع القوات السمائية".
التسبيح هو ترتيل للإيمان، فالكنيسة رتبت صلواتها وتسابيحها من خلال عقيدتها، فنجد نصوصًا من مجمع أفسس موجودة في الثيئوتوكيات، إعلانًا لعقيدة الكنيسة بأنها أم الله بالحقيقة. التسبيح هو ما يغرس في النفس فرحًا وشبعًا بالرب يسوع، فيصير الإنسان متهللاً بالروح، يحيا في لطف ووداعة، وينمو في الفضائل المسيحية.
نسأل الله أن يجعل صومنا مقبولًا، وأن يملأ قلوبنا بفرح ميلاد ابنه الوحيد، له المجد إلى الأبد آمين.
إرسال تعليق