الصوم الكبير في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية: ربيع الروح وزمن الاعتكاف

الصوم الكبير في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية: ربيع الروح وزمن الاعتكاف

الصوم الكبير في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية: ربيع الروح وزمن الاعتكاف


يحتل الصوم الأربعيني الكبير مكانة خاصة في قلوب ابناء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إذ يُعتبر أحد أقدس الأيام في السنة الكنسية. يُعرف هذا الصوم بـ"صوم سيدي" نسبةً لسيدنا يسوع المسيح الذي صامه، مما يمنحه مكانة استثنائية بين الأصوام الهامة. تدخل الكنيسة في هذه الفترة في فترة اعتكاف وتوبة ليتروجية، حيث يُعتبر الصوم فترةً لتجديد الروح والاقتراب من الله.


تفسيرًا لأهمية هذا الصوم، تجسدت فيه روح الصوم الذي صامه سيدنا يسوع المسيح لأربعين يومًا وأربعين ليلة، دون تناول طعام، مما جعله فترةً للتأمل والتجديد الروحي يعتمدها ابناء الكنيسة كزخم للعام الروحي بأسره.


كان الصوم الكبير مجالًا للوعظ والتعليم في الكنيسة، حيث كان يُستغل من قبل الآباء لنقل العبر والمواعظ، من بينهم القديس يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينية، والقديس أغسطينوس إبن الدموع أسقف هيبو، اللذان اشتهرت عظاتهما خلال هذه الفترة.


وتعتبر الكنيسة الصوم فترة إعداد للمقبلين على العماد، حيث يُقام خلالها دورات تعليمية وعظية لتهيئة المؤمنين لاستقبال نعمة المعمودية. ومن بين الرعاة الذين اشتهروا بإعداد الموعوظين خلال هذه الفترة القديس كيرلس الأورشليمي. وبهذا يصبح الصوم الكبير من أهم الفترات في الكنيسة، وأقدمها أيضًا.


تتكون فترة الصوم الكبير من ثلاثة اقسام : أسبوع الاستعداد، الأربعون المقدسة ، وأسبوع الآلام الذي يليها وهكذا تمتد لخمسة وخمسين يومًا.


جوّ الروحانية في الصوم الكبير: تحضيرٌ وتجديد



تولي الكنيسة اهتمامًا خاصًا بالصوم الكبير، الذي يُعرف برتبته وقدسيته الفائقة. وإذا كان السيد المسيح قد صام لأجلنا وهو في غنى عن ذلك، فمن الطبيعي أن نقدم نحن أيضًا التضحية والصوم، لتحضير أرواحنا وتجديدنا. تقدم الكنيسة صوم يونان قبل الصوم الكبير بأسبوعين، كتحضير لأولادها، لتجعلهم يتأهبون لهذه الفترة الروحية الفريدة.


وبمناسبة الصوم الكبير، تُعد الكنيسة طقوسًا خاصة له، حيث يتمتع بألحان ومردات مميزة، وقراءات وقطمارس خاصة تُعرف باسم "قطمارس الصوم الكبير"، إلى جانب ترتيب وطقس خاص يعرف بـ"الطقس الصيامي". يشمل هذا الطقس رفع بخور باكر ومطانيات وسجدات وميامر وطلبات ونبوات وقراءات من العهد القديم.


بهذا النحو، تخلق الكنيسة جوًا روحيًّا خاصًا للصوم، يدفع المؤمنين للاستماع والتأمل، وذلك عندما يبدأون رحلتهم في الصوم الكبير خلال الخدمة الليتورجية التعبدية.


اقتياداً بالمسيح: الصوم الكبير ومسيرة التبعية



ترتبت الكنيسة لصوم الأربعين المقدس، محاكاةً لصوم المسيح، لتدعونا إلى أن نسلك في خطاه ونتبع نموذجه. هكذا تجعل الكنيسة حياة المسيح جزءًا من حياة أفرادها، معتمدة على أفعاله وسلوكه كمصدر للإلهام والتوجيه. وبهذا الشكل، تصبح الحياة النموذجية التي يقتدي بها الأبناء هي تجسيد لسيرة المسيح، داخل إطار الحياة اليومية.


تعتبر الكنيسة نفسها حارسة على سر اللاهوت النسكي، الذي أسسه السيد المسيح بصومه الأربعين المقدس، إذ تفتخر بأنها تتشارك في هذا الصوم كسرٍ تعبدي وتأملي، يجسِّد تعاليم المسيح ويمثل روح التبعية والتضحية.


في هذا السياق، تبرز عظمة الصوم الكبير في تقديم نموذج محكمٍ يحاكي صوم السيد المسيح، الذي جعلته الكنيسة سرًا يُسلِّمه لأتباعها كمصدر للإيمان والقوة.


الصوم الكبير: موسم التوبة الجماعية



تضع الكنيسة الصوم الكبير كموسمٍ للتوبة الجماعية، إذ تشدد على الطابع الجماعي لكنيستنا، التي ترتكز على مبدأ الشركة في جسد المسيح. تهدف تنظيم هذا الصوم إلى تأكيد الوحدة والترابط بين أفراد الكنيسة، لتصبح التوبة الجماعية هدفًا أساسيًا ورسالة هذا الصوم.


يسعى الصوم الكبير إلى تعزيز النمو الروحي والمحبة والتضحية والدعوة الإيمانية والصلاة، وذلك بروح من الوحدة والتكاتف، حيث تكون الكنيسة كمدينة للرب، مسكنًا للقديسين، وتجمعًا لأتباع المسيح المتمثلين في أعضاء الجسد الواحد.


فالكنيسة لا تشكل مجرد تجمعًا من الأفراد، بل هي شراكة حقيقية مع الثالوث القدوس والقديسين وجميع المؤمنين الذين يشكلون جسد المسيح. نتقدم فيها لنتناول جسد المسيح الذي ينقينا من الخطايا، داخل بيت واحد، أي داخل الكنيسة الواحدة المتميزة بروح الحب والفضيلة.

Post a Comment

أحدث أقدم