التجربة على الجبل



التجربة على الجبل

التجربة على الجبل

تحدث الإنجيلى متى (1:4ـ11) والإنجيلى لوقا (1:4ـ13) عن تجربة السيد المسيح فى شئ من التفصيل، موضحين: زمن التجربة، ودور الروح القدس فيها، ومكان التجربة، ومن هو المجرب، وأنواع التجارب الثلاث. بينما أوردها الإنجيلى مرقس (12:1ـ13) فى اختصار شديد.

أولاً: زمن التجربة:
يبدأ الإنجيلى متى حديثه عن التجربة بكلمة ثم، " ثم أُصعِدَ يسوع إلى البرية من الروح ليُجرب من إبليس" وكأن التجربة أمر طبيعى وضرورى للسيد ـ ولما قَبِل أن يدخل فى مياه المعمودية، نيابة عنا ـ هكذا أيضًا يدخل فى صراع مفتوح مع إبليس.
ونحن أيضًا إذ ندخل المعمودية المقدسة ونلبس المسيح " لأن كلكم الذين اعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح" (غلا27:3)، يلزمنا الدخول فى المعركة التى يثيرها رئيس ظلمة هذا العالم. فبعد كل نعمة إلهية هناك حرب روحية.

ثانيًا: دور الروح القدس:
يقول الإنجيل " أُصعِدَ يسوع بالروح" (مت1:4) " وكان يُقتاد بالروح فى البرية" (لو1:4).
يسأل القديس كيرلس الكبير: ما هو معنى كلمة يُقتاد؟ ويجيب بنفسه على السؤال قائلاً: " إنها لا تعنى توصيله إلى هناك، بقدر ما تعنى أنه أقام واستمر هناك.. إذن فهو قد أقام فى البرية بالروح، أى روحيًا"[1].
ونحن علينا ألاّ نسعى فى الدخول فى تجارب. وقد علمنا من الرب أن نصلى دائمًا ونقول " لا تدخلنا فى تجربة لكن نجنا من الشرير" (مت13:6) فرب المجد، الذى شابهنا فى كل شئ وجعل نفسه مثالاً لنا فى السلوك، لم يسع إلى التجربة، ولكن ذهب إلى التجربة بقيادة الروح.

ثالثًا: مكان التجربة:
اختار السيد المسيج "البرية" لتكون مكان التجربة، أو بمعنى آخر ميدان المعركة بينه وبين إبليس بطريقة علنية. اختيار هذا المكان ربما يرجع إلى أنه بحسب التفكير اليهودى يُنظر إلى الشيطان والأرواح الشريرة أنها تسكن البرارى والأماكن الخربة والقبور. وكأن السيد أراد أن يدخل بنفسه إلى المعركة مع إبليس فى أرضه، أى كمن هو فى عرين الأسد. فى القديم ذهب الشيطان إلى آدم ليجربه، لكن إذ لا يستطيع أن يهاجم المسيح، ذهب المسيح إليه.



رابعًا: من هو المُجرب:
بعدما أكد الإنجيلى أن الروح هو الذى أصعد يسوع إلى البرية ليُجرب، أوضح أن المجرب هو إبليس نفسه. والكلمة فى اليونانية    Ð Διάβολος  تعنى المشتكى، النمام، الواشى، الطاعن، المفترى، المتهم بالباطل، أى الذى لا عمل له إلاّ أن يشتكى علينا ليصد مراحم الله عنا. وقد دُعىّ أيضًا بالشيطان Ð Δαίμονας  أى المغتاظ، الغاضب، الذى يثير ويهيج، فهو خصم لا يتوقف عن مقاومتنا وكما يقول بطرس الرسول: " اصحوا واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه" (1بط8:5).
يقول القديس كيرلس عمود الدين: [لأنه منذ القدم، أى قبل زمن مجئ المسيح مخلص الكل، فإن عدو الجميع كانت له تصورات كبيرة ومخيفة عن نفسه. لأنه كان يفتخر متعظمًا على ضعف سكان الأرض قائلاً: " سأمسك العالم فى يدى كعش وكبيض مهجور آخذه، ولن يهرب أحد منى أو يتكلم ضدى" (إش14:10س)، وفى الحقيقة لم يكن أحد من أولئك الذين على الأرض يستطيع أن يقوم ضد قوته، ولكن الابن قام ضده وتصارع معه إذ قد صار مثلنا. لذلك فإن الطبيعة البشرية كمنتصرة فيه تربح الإكليل. قال السيد بلسان إرميا النبى: "ها أنذا عليك أيها الجبل المهلك ـ المهلك كل الأرض" (25:51)][2].

خامسًا: التجارب الثلاث:
بدأت الحرب مع بدء الصوم الأربعينى كما يعلن الإنجيلى مرقس        " وكان هناك فى البرية أربعين يومًا يُجرب من الشيطان" (13:1). بالطبع لم يكن السيد محتاجًا للصوم، إنما صام ليقدس أصوامنا، مشجعًا إيانا عليه. والتجارب الثلاث ليست هى كل ما جرب به الشيطان الرب، بل هى مجرد عينة احتفظت لنا بها الأناجيل . وربما كانت التجارب الثلاث خاصة بنهاية الأربعين يومًا. والشيطان إذ لم يجد منفذًا ينفذ منه إلى داخل السيد، ليحاربه فى أفكاره بسبب كون السيد طاهرًا وقدوسًا وبلا خطية، لذا اضطر الشيطان أن يظهر له عيانًا.

التجربة الأولى: ” تجربة الخبز ”:
يقول الإنجيلى متى " فبعدما صام أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاع أخيرًا فتقدم إليه المجرب وقال له إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا" (مت2:4ـ3، لو2:4ـ3).
قبل أن نسترسل فى توضيح مفهوم التجربة، علينا أن نوضح أولاً كيف يُكتب عن السيد أنه "جاع" وهو الذى يعطى الجياع طعامًا، وهو نفسه الخبز النازل من السماء الواهب حياة للعالم، وهو الذى به تقوم كل الأشياء. يزيل لنا هذا الغموض بابا الأسكندرية الـ(24) بقوله: [بسبب أنه كان من الضرورى لذاك الذى لم يرفض فقرنا، أن لا ينسحب من أى شئ يخص حالة الإنسان، لذلك فقد وافق أن يحتاج للمؤونة الطبيعية. وهذا هو سبب القول "إنه جاع". ولكنه مع ذلك لم يجع إلاّ بعد أن صام مدة كافية، وبقوته الإلهية قد حفظ جسده من الخوار... وذلك لكى يُعرف أنه هو إله وإنسان معًا فى نفس الوقت][3].
هكذا يقترب الشيطان من السيد لكى يجربه، متوقعًا أن الجوع سيسهل له تنفيذ خطته الخبيثة. لقد أراد الشيطان أن يعرف هل هو يقترب من إنسان عادى أو من المسيح نفسه. وإذ وضع فى اعتباره أن تغيير طبيعة شئ إلى طبيعة أخرى إنما هو عمل القوة الإلهية وحدها، لذلك قال فى نفسه إن فعل هذا (أى تحويل الحجارة إلى خبز) يكون هو بالتأكيد ذلك الشخص المنتظر الذى سيبطل قوتى، ولكن إن رفض أن يعمل هذا التغيير، فإنى بذلك أتعامل مع إنسان وأطرح الخوف والشك عنى بعيدًا.
لذلك فإن المسيح، لمعرفته بحيلة الشيطان، فإنه رفض أن يحوّل الحجر خبزًا، لئلا عندما يعرف المجرب بذلك أنه هو الله، يتركه ويهرب. كما أنه لم يقل إنه غير قادر أو غير راغب أن يعمل هذا التغيير وذلك لكى لا ينكر قوته الخاصة، بل صده قائلاً: " مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت4:4 وتث3:8). وهو يعنى بهذا أنه، إن الله أعطى القوة للإنسان، بكى يستطيع أن يصمد بدون طعام، ويحيا مثل موسى وإيليا اللذان بقوة كلمة الرب صرفا أربعين يومًا دون أن يأكلا شيئًا، لذلك، فإن كان ممكنًا للإنسان أن يحيا بدون خبز، فلماذا أحوّل أنا الحجر خبزًا؟
بواسطة الطعام الذى يخرج من الأرض، يتقوى جسدنا الأرضى، أما النفس العاقلة فإنها لا تتغذى وتنمو إلى الصحة الروحانية بواسطة كلمة الله الطعام الذى من فوق.

2 ـ التجربة الثانية: ” تجربة الكبرياء ”:
" ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل وقال له إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل. لأنه مكتوب أنه يوصى ملائكته بلك. فعلى أياديهم يحملونك لكى لا تصدم بحجر رجلك" (مت5:4ـ6، لو9:4ـ11، مز11:91ـ12).
الأمر الخطير هو أن الشيطان يحارب أولاد الله فى المدينة المقدسة، وفى المكان المقدس، بل وفى أعلى موضع فى المكان المقدس، هكذا لا يتوقف عن محاربتنا إينما وجدنا.
وقد يسأل أحدهم، كيف أخذ إبليس السيد إلى المدينة المقدسة ثم إلى جبل عالٍ فيما بعد، وكيف أطاعه السيد؟ والجواب: إن السيد ـ كما قلنا سابقًا ـ كان " يُقتاد بالروح" وليس بإبليس، أى كان الروح يقتاده ويسمح لإبليس أن يجربه. كما يمكن اعتبار القول " أخذه إبليس" بمعنى أن إبليس نقل الحديث من موضوع إلى موضوع آخر. وربما يكون إبليس قد صوّر للسيد وقفته على جناح الهيكل تصويرًا فقط ولم يقفا عليه فعلاً. وواضح من تجربة الجبل العالى، أنها محض تصوير لأنه ـ مهما كان الجبل عاليًا، فإن الناظر لا يرى منه " جميع ممالك العالم" .
أما عن استشهاد الشيطان بالآيات الكتابية فإننا نجد أن الشيطان لم يخطئ هنا فى الاقتباس من الأسفار المقدسة لكنه اخطأ فى تفسيرها. فالمقصود من كلمات المزمور (91) هو إظهار حماية الله لشعبه، وليس تحريض الناس على استخدام قوة الله فى تقديم عروض جسدية.
كانت كلمات إبليس للسيد " اطرح نفسك إلى أسفل" هى كلماته دائمًا إذ يتمنى السقوط للجميع.
وكان إبليس يعلم تمامًا أنه ينبغى أن يأتى ابن الله، لكنه لم يكن يعتقد أنه يأتى فى ضعف كإنسان وفى حاجة إلى مساعدة الملائكة له، لهذا أراد أن يتأكد بالتجربة. أما الرب فقد أجابه: " مكتوب أيضًا لا تجرب الرب إلهك" (مت7:4، لو12:4، تث16:6). فإن الله لا يمنح معونته لأولئك الذين يجربونه، بل لأولئك الذين يثقون به، ولا ينبغى أن نستغل رحمته علينا.



3 ـ التجربة الثالثة: ” تجربة الطريق السهل ”:
" ثم أخذه أيضًا إبليس إلى جبل عالٍ جدًا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها وقال له أُعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لى" (مت8:4ـ9، لو5:4ـ7).
لأن إبليس لم يكن يعلم أن المسيا القادم سيؤسس مملكته بواسطة الصليب والألم، فإنه أراه جميع ممالك العالم ليملك عليها، لكن ليس عن طريق الصليب، وإنما من خلال الطريق السهل والباب الواسع وهو السجود لإبليس نفسه.
لكن هل كان للشيطان السلطان أن يعطى يسوع ممالك العالم؟ أليس لله خالق العالم السلطان عليها؟
لعل الشيطان كان يكذب من جهة قوته المزعومة، فهو كذاب وأبو الكذاب (انظر يو44:8).
أو لعله كان يعنى سلطته الوقتية وإمساكه بزمام الأرض بسبب الطبيعة البشرية الخاطئة، كما سبق القول.
ويشرح القديس كيرلس بأكثر إيضاح قائلاً: [ كيف تتجاسر أن تُرى الرب ممالك الخليقة كلها وتقول: " إنها لى؟ فإن سجدت أمامى سأعطيها لك". فكيف تعد بشيء ليس هو لك؟ من جعلك وارثًا لمملكة الله؟ من جعلك سيدًا على كل ما تحت السماء؟ إنك حصلت على هذه الأشياء بالخداع والاحتيال، لذلك إرجعها، للابن المتجسد، رب الكل][4].
إنه مكتوب " للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد" (مت10:4، لو8:4، خر2:20ـ5) [لقد ذكر الرب هذه الوصية فى الوقت المناسب ـ هكذا يكتب القديس كيرلس عمود الدين ـ ووجهها إلى الشيطان فى الصميم. فقبل مجئ الرب، كان الشيطان قد خدع كل من تحت السماء، وكان يُعبد فى كل مكان. أما وصية الله هذه فإنها تطرده من السيادة التى اغتصبها بالخداع، وتوصى الناس أن يعبدوا الذى هو بالطبيعة وبالحق الله][5].
أخيرًا، ختم الإنجيلى متى حديثه عن التجارب بقوله: " ثم تركه إبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه" (11:4) ويقول لوقا إن إبليس " فارقه إلى حين" (13:4). فالحرب لا تهدأ قط، لكن مع كل نصرة تفرح الملائكة كحراس لنا، فتتقدم إلينا لتحمل هذه النصرة كإكليل مجد ترفعها إلى السماء لحسابنا الأبدى. ولعل قوله فى مرقس (13:1) " وكان مع الوحوش فى البرية . وصارت الملائكة تخدمه" إشارة إلى العصر المسيانى الذى تنبأ عنه الكثير من الأنبياء، والذى يُنزع فيه الطبع الوحشى للحيوانات " فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدى والعجل والشبل والمسمن معًا وصبى صغير يسوقها .." (إش6:11ـ9).



[1] تفسير إنجيل لوقا (الجزء الأول) ـ ترجمة د. نصحى عبد الشهيد، إصدار مركز دراسات الآباء، ص83، القاهرة 1990.
[2] المرجع السابق، ص81.
[3] المرجع السابق، ص 85، 86.
[4] المرجع السابق، ص 88.
[5] المرجع السابق ص 88و89.

Post a Comment

أحدث أقدم