ظهورات السيد المسيح بعد القيامة: نظرة لاهوتية وكتابية متعمقة

ظهورات السيد المسيح بعد القيامة: نظرة لاهوتية وكتابية متعمقة


ظهورات السيد المسيح بعد القيامة: نظرة لاهوتية وكتابية متعمقة

أهلاً بكم زوار ومتابعي موقع Coptic Koogi الكرام. إن ظهورات السيد المسيح بعد قيامته من الأموات تمثل جوهر الإيمان المسيحي النابض، وهي ليست مجرد أحداث تاريخية، بل هي الحقيقة التي تنقل الإنسان من ظلمة اليأس إلى نور الرجاء الأبدي. فبدون القيامة، يفقد الإيمان معناه، لأنها البرهان الحي على انتصار المسيح على الموت، وفتح طريق الحياة الأبدية لنا. هذه الظهورات كانت بمثابة تأكيد إلهي على أن المسيح لم يقم فحسب، بل إنه حاضر معنا، يحيي قلوبنا ويجدد علاقتنا به في كل يوم.

تُعد هذه الظهورات أيضاً بمثابة خيط ذهبي يربط العهد القديم بالعهد الجديد. فمنذ أيام داود وإشعياء وهوشع، كانت النبوات تبشر بالقيامة. في مزمور 16: 10، وعد الرب بأن قدوسه لن يُترك في الهاوية ولن يرى فساداً: "لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَادًا." كما تحدث إشعياء في الأصحاح 53 عن عبد الرب الذي سيموت ويقوم ثانية ليخلص شعبه: "أما الرب فسرّ أن يسحقه بالحزن. إذا جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلًا، يطيل أيامًا، ومسرة الرب بيده تنجح. من تعب نفسه يرى ويشبع..." ونطق هوشع بكلام واضح: "في اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه." تؤكد هذه النبوات أن القيامة لم تكن مجرد حلم، بل هي جزء أصيل من الخطة الإلهية العظيمة لخلاص البشرية.

يهدف هذا المقال إلى استكشاف ظهورات المسيح كما وردت في الأناجيل وسفر أعمال الرسل. سنتأمل في تفاصيل كل ظهور ومعناه اللاهوتي، ونربطه بالنبوات القديمة، ونستخلص منه دروساً روحية تنمي إيماننا. نتمنى أن تشاركونا بآرائكم وتعليقاتكم أسفل المقال.

مدة ظهورات السيد المسيح على الأرض بعد القيامة

وفقاً لما جاء في سفر أعمال الرسل 1: 3، استمرت ظهورات السيد المسيح لتلاميذه لمدة أربعين يوماً بعد قيامته من الأموات. كانت هذه الفترة فرصة بالغة الأهمية ليسوع لتعليم تلاميذه وتدريبهم، حيث قدم لهم "ببراهين كثيرة قاطعة" على حقيقة قيامته، وتحدث معهم عن أمور ملكوت الله. سمحت هذه الفترة الطويلة نسبياً ليسوع بأن يعزز إيمان التلاميذ ويقوي يقينهم، ويجهزهم بشكل كامل للمهمة العظيمة التي كانت تنتظرهم، وهي نشر الإنجيل في العالم بأسره.

تفاصيل كل ظهور وأهميته اللاهوتية

الظهور الأول: لمريم المجدلية

كان الظهور الأول للسيد المسيح بعد قيامته لمريم المجدلية، وهي قصة غنية بالعمق الروحي والمعاني العظيمة. 

الظهور الأول: لمريم المجدلية


في فجر يوم الأحد، ذهبت مريم المجدلية إلى القبر وقلبها يعتصره الحزن، راغبة في تكريم جسد يسوع بحسب العادات اليهودية. وعند وصولها، وجدت الحجر مدحرجاً والقبر فارغاً! أصابها الذهول وأخذت تبكي خارج القبر، غير مدركة لما حدث. وبينما هي تبكي، نظرت داخل القبر فرأت ملاكين بثياب بيضاء، جالسين حيث كان جسد يسوع. سألاها بحنان: «يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟» فأجابت وهي تبكي: «إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي، وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ!» ثم التفتت فرأت شخصاً واقفاً، لكن دموعها حجبت رؤيتها فلم تعرفه. كان يسوع نفسه، لكنها ظنته البستاني. سألها: "لماذا تبكين؟ ومن تطلبين؟" فقالت له: "يا سيد، إن كنت قد حملته أنت، فقل لي أين وضعته وأنا آخذه." حينئذ ناداها يسوع باسمها بصوت مفعم بالحب: "يا مريم!" فقفز قلبها فرحاً، وعرفَتْه على الفور، وصرخت بالآرامية: "ربوني!" أي "يا معلمي!" أرادت أن تمسكه، لكن يسوع قال لها: "لا تلمسيني، لأني لم أصعد بعد إلى أبي." ثم كلفها: "اذهبي وقولي لإخوتي إني أصعد إلى أبي وأبيكم، إلهي وإلهكم." فانطلقت مريم مسرعة إلى التلاميذ وبشرتهم: "لقد رأيت الرب! لقد قام حقاً!"

شرح النص وتعاليم الآباء:

ذهبت مريم المجدلية إلى القبر في فجر يوم الأحد، وهي تحمل حزناً ثقيلاً بعدما شهدت صلب يسوع وموته. وعندما وجدت القبر فارغاً، شعرت وكأنها فقدت حتى فرصة تكريم جسده. فالقبر الفارغ، كما أكد الآباء القديسون، ليس مجرد دليل على القيامة، بل هو صرخة إلهية بأن الموت قد انكسر، والحياة قد انتصرت. القبر، الذي كان رمزاً للنهاية، أصبح مدخلاً للحياة الأبدية، لأن يسوع لم يعد محتجزاً فيه. مريم، وهي تبكي، رأت ملاكين جالسين حيث كان جسد يسوع، وكانت هذه أول إشارة إلهية على أن ما حدث ليس سرقة أو خسارة، بل عمل عظيم من الله. الملائكة، كما شرح الآباء، كانوا شهوداً سماويين لمجد القيامة، جاءوا ليطمئنوا مريم ويفتحوا عينيها على الحقيقة. وعندما سألاها: "لماذا تبكين؟" كانا يحاولان نقلها من الحزن إلى الإيمان، لكن قلبها كان لا يزال منكسراً.

عندما التفتت مريم ورأت يسوع، لم تعرفه في البداية، وهذا ليس غريباً. فدموعها كانت كستار يغطي عينيها، كما أن جسد يسوع الممجد كان مختلفاً عن شكله قبل الصليب. قال الآباء إن عدم معرفتها له في البداية يوضح أن القيامة غيرت طبيعة جسده، فأصبح ممجداً، روحانياً، لكنه لا يزال هو يسوع الذي عاش معهم. الحزن، كما شرحوا، يمكن أن يعمي القلب ويمنعنا من رؤية الحقيقة، لكن كل هذا تغير عندما ناداها يسوع: "يا مريم!" هذا الصوت، كما قال الآباء، كان كالمفتاح الذي فتح قلبها. عندما ناداها باسمها، أظهر أن علاقته بها شخصية، وأنه يعرف كل واحد منا باسمه، وينادينا بنفس الحب لكي نعرفه كرب ومخلص. ردت مريم بكلمة "ربوني"، وكانت هذه صرخة إيمان، كما قال الآباء، تعبر عن إدراكها أن يسوع ليس مجرد معلم، بل هو الرب الذي انتصر على الموت.

وعندما أرادت أن تمسكه، قال لها يسوع: "لا تلمسيني، لأني لم أصعد بعد إلى أبي" (يوحنا 20: 17). هذا الكلام، كما شرح الآباء، ليس رفضاً لمريم، بل تعليماً بأن العلاقة معه ستكون مختلفة الآن. القيامة هي بداية عهد جديد، والإيمان بها يجب أن يتركز على الروح واليقين، لا على مجرد اللمس الجسدي. كان يسوع يجهز مريم لمرحلة جديدة، عندما سيصعد إلى الآب ويرسل الروح القدس. كلامه هذا يفتح الطريق لفهم أن حضوره سيبقى معنا، ولكن بطريقة روحية أعمق. ثم كلفها بتبشير التلاميذ، وقال: "اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" (يوحنا 20: 17). قال الآباء إن هذا الكلام يوضح سراً عظيماً: القيامة جعلتنا عائلة الله. فالمسيح، بموته وقيامته، جعلنا أولاد الآب، وهذا هو التبني الذي وهبه لنا. عندما قال "أبي وأبيكم"، أظهر أننا لسنا مجرد تابعين، بل إخوته ونعيش معه في بيت الآب.

إن اختيار مريم المجدلية، التي كانت امرأة ولها ماضٍ صعب، كما ذكر إنجيل لوقا أنه طُرد منها سبعة شياطين (لوقا 8: 2)، كان أمراً مذهلاً. ففي مجتمع لم يكن يحترم شهادة النساء، اختارها يسوع لتكون أول مبشرة بالقيامة. قال الآباء إن هذا إعلان عن نعمة المسيح التي لا حدود لها، تكسر كل الحواجز، سواء اجتماعية أو شخصية. مريم، التي كانت في ضعف، صارت رمزاً للكنيسة التي تبشر بالنور، مهما كان ماضي الإنسان. اختيارها يعلمنا أن رحمة المسيح تصل إلى الجميع، وأن الذين كانوا بعيدين عنه يمكن أن يصبحوا أقرب الناس إليه إذا طلبوه بصدق. وعندما ذهبت مريم لتبشر التلاميذ، كانت كشعلة نور تنشر فرحة القيامة، وهذا يذكرنا بأن كل واحد منا مدعو ليكون مبشراً، مثلها، مهما كانت ظروفه.

يظهر لنا هذا الظهور أن المسيح يهتم بكل واحد منا بشكل شخصي، كما نادى مريم باسمها. الحزن والشك يمكن أن يعميا أعيننا، لكن صوت المسيح يفتح القلوب ويجعلنا نرى الحقيقة. رحمته لا حدود لها، ويختار الضعفاء ليصبحوا شهوداً لمجده. القيامة ليست مجرد حدث وقع في الماضي، بل هي دعوة لكل واحد منا لنعيشها كل يوم، ونبشر بها مثل مريم، بنور الإيمان والفرح.

الظهور الثاني: لمجموعة من النساء العائدات من القبر

كان الظهور الثاني للسيد المسيح بعد قيامته لمجموعة من النساء اللاتي كن عائدات من القبر. هذه القصة مليئة بالمعاني العميقة وتظهر لنا حنان المسيح واهتمامه بأتباعه.

الظهور الثاني: لمجموعة من النساء العائدات من القبر


في فجر يوم الأحد، وبعدما ذهبت النساء، مثل يوانا ومريم أم يعقوب وغيرهن، إلى القبر لتكريم جسد يسوع، وجدن الحجر مدحرجاً والقبر فارغاً. رأين ملاكين أخبراهن أن يسوع قد قام، وطلب منهن الذهاب لإبلاغ التلاميذ. وبينما هن عائدات من القبر، وقلوبهن مليئة بالذهول والخوف والفرح في آن واحد، فجأة ظهر يسوع نفسه أمامهن! قال لهن بصوته الهادئ المفعم بالحنان: "السلام!" أصابهن الذهول لكنهن فرحن جداً، واقتربن منه بسرعة، وأمسكن بقدميه وسجدن له، وعيونهن مليئة بالإيمان والحب. طمأنهن يسوع وقال: "لا تخافوا، اذهبن وقلن لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل، وهناك سيرونني." فانطلقت النساء، وهن لا يصدقن من شدة الفرح، مسرعات لتنفيذ أمره، ليبشرن التلاميذ بالخبر العظيم أن يسوع قد قام حقاً وسيرونه في الجليل.

شرح النص وتعاليم الآباء:

ذهبت هؤلاء النساء، اللاتي كن من أوفى أتباع يسوع، إلى القبر في الصباح الباكر بحزن ثقيل، راغبات في تكريم جسده حسب العادات. وعندما رأين القبر فارغاً وسمعن من الملاكين أن يسوع قد قام، اختلط لديهن الخوف بالفرح. كن في حالة صدمة، غير متأكدات من تصديق الخبر. وبينما هن عائدات، ظهر لهن يسوع، وكانت أول كلمة قالها هي "السلام!" وكما قال الآباء، هذه الكلمة ليست مجرد تحية، بل هي عطية إلهية عميقة. فالمسيح، الذي انتصر على الموت، كان يزرع في قلوبهن سلاماً حقيقياً، يطرد الخوف ويبدل القلق باليقين. هذا السلام، كما شرحوا، هو ثمرة القيامة، لأنها صالحت البشر مع الله، ويصل إلى كل قلب خائف، ليجعله يستريح في حضن الرب.

عندما رأت النساء يسوع، اقتربن منه وأمسكن بقدميه وسجدن له. كانت هذه اللحظة مليئة بالإيمان والمحبة. فتمسكهن بقدميه، كما قال الآباء، يعبر عن فرحتهن العميقة برؤيته حياً، ويعيد لهن الأمان الذي شعرن به وهو معهن قبل الصليب. أما السجود، من ناحية أخرى، فكان إعلاناً لإيمانهن بأن يسوع ليس مجرد معلم، بل هو الرب الإلهي، ابن الله الحي. قال الآباء إن هذا السجود هو اعتراف بألوهية المسيح، لأنه لا يسجد إلا لله. النساء، في هذه اللحظة، كن يمثلن الكنيسة كلها، التي تسجد للمسيح القائم، معترفة بأنه المنتصر على الموت والذي له كل السلطان.

طمأنهن يسوع وقال: "لا تخافوا" (متى 28: 10). كان هذا الكلام ضرورياً، لأن النساء كن في حالة ارتباك من القبر الفارغ وكلام الملاكين. وكما شرح الآباء، كلمة "لا تخافوا" هي دعوة للإيمان، لأن القيامة أزالت الخوف من الموت وفتحت باب الرجاء. كان يسوع يزرع في قلوبهن ثقة بأن ما رأينه حقيقة، لا حلماً، ويحول خوفهن إلى فرحة عميقة. هذا الكلام يعلمنا أنه مهما كانت الظروف مخيفة، فإن قوة القيامة تمنحنا أماناً ويقيناً بأن المسيح معنا.

ثم كلفهن يسوع: "اذهبن وقلن لإخوتي أن يذهبوا إلى الجليل فهناك يرونني" (متى 28: 10). كلمة "إخوتي"، كما قال الآباء، مليئة بالحنان والمحبة. فالمسيح، بعد قيامته، يعتبر التلاميذ عائلته، إخوته، لأن القيامة جعلتهم أولاد الله. شرح الآباء أن هذا يوضح سر التبني الذي وهبه المسيح للمؤمنين، فأصبحنا ليس مجرد تابعين، بل أهل بيت الآب. إرساله النساء لإبلاغ التلاميذ يؤكد أن الجليل سيكون مكاناً للقاء مهم، كما حدث في التكليف العظيم لاحقاً. فالجليل، مكان خدمة يسوع، كان كرمز على أن رسالته مستمرة، والقيامة هي بداية مرحلة جديدة لنشر الإنجيل.

كان ظهور المسيح لهؤلاء النساء، بعد مريم المجدلية، بمثابة تأكيد ثانٍ للقيامة. وكما قال الآباء، إن يسوع يختار أن يظهر لأشخاص إضافيين يثبت أن القيامة ليست قصة واحدة رآها شخص واحد، بل حدث حقيقي شهده شهود كثر. تعدد الشهود هذا دليل قوي على صدق القيامة، لأنه لا يمكن لكل هؤلاء الناس أن يتوهموا نفس الشيء. كما أن اختيار النساء بالذات، في مجتمع كان يقلل من قيمة شهادتهن، كان بمثابة صدمة للتقاليد. قال الآباء إن المسيح، باختياره النساء، كسر الحواجز الاجتماعية، وأظهر أن نعمته لا حدود لها. فالذين كانوا محتقرين في المجتمع أصبحوا رسل القيامة، وهذا يعلمنا أن المسيح يختار الضعفاء ليجعلهم أداة لمجده. هؤلاء النساء صرن صورة للكنيسة، التي تنشر البشارة مهما كانت التحديات.

يظهر لنا هذا الظهور أن المسيح دائماً يأخذ المبادرة ليطمئننا. فعندما كانت النساء خائفات ومرتبكات، ظهر هو بنفسه، ومنحهن سلاماً وطرد خوفهن. سجودهن له يذكرنا بأن إيماننا يجب أن يترجم إلى عبادة حقيقية، لأن المسيح هو ربنا الذي انتصر على الموت. إرسالهن بالبشارة يعلمنا أن كل واحد منا، مهما كان مكانه أو ظروفه، له دور في نشر خبر القيامة. هذا الظهور كنسيم ربيع بعد ليل طويل، يملأ القلب فرحاً ويجعلنا نعيش السلام الحقيقي الذي جلبه لنا يسوع.

الظهور الثالث: لبطرس (سمعان)

كان الظهور الثالث للسيد المسيح بعد قيامته لبطرس (سمعان)، وهي قصة مليئة بالرحمة والمحبة الإلهية.

الظهور الثالث: لبطرس (سمعان)


في يوم الأحد، بعدما بشرت مريم المجدلية والنساء الأخريات بالقيامة، كان بطرس، أو سمعان كما كانوا ينادونه، جالساً في أورشليم، وقلبه منكسر من الندم. هو الذي كان زعيم التلاميذ، لكنه أنكر يسوع ثلاث مرات قبل الصليب، ودموعه لم تجف بعد من الحزن على ضعفه. فجأة، في لحظة لا يعرف أحد تفاصيلها بالضبط، ظهر يسوع لبطرس وحده. لم يُكتب الكثير عن هذه اللحظة، لكن تخيل بطرس وهو ينظر في عيني يسوع، الذي رآه ميتاً على الصليب، والآن يقف أمامه حياً! كان هذا الظهور كبلسم لجرح بطرس، كحضن من المسيح يقول له: "أنا سامحتك، وما زلت أريدك معي." التلميذان اللذان كانا في عمواس، عندما عادا إلى أورشليم، قالا للتلاميذ: "الرب قام حقاً وظهر لسمعان!" (لوقا 24: 34). كما أكد بولس لاحقاً أن يسوع ظهر لكيفا، أي بطرس، كواحد من شهود القيامة (1 كورنثوس 15: 5). هذه اللحظة غيرت بطرس، وأعادته من اليأس إلى الرجاء، وفتحت قلبه ليعود ليخدم المسيح بكل قوة.

شرح النص وتعاليم الآباء:

كان بطرس في حالة صعبة جداً. هو الذي قال ليسوع: "وإن شك فيك الجميع، فأنا لا أشك أبداً!" (متى 26: 33)، لكن عندما حانت لحظة الامتحان، خاف وأنكر يسوع ثلاث مرات أمام الناس (لوقا 22: 54-62). وعندما صاح الديك، كما تنبأ يسوع، تذكر بطرس كلامه وخرج يبكي بحرقة. كان الندم كالجبل على قلبه، وربما شعر أنه لم يعد جديراً بأن يكون تلميذاً، ناهيك عن أن يكون راعياً للكنيسة كما وعده يسوع. لكن يسوع، كما يفعل دائماً، لم يترك بطرس في ندمه. ظهر له وحده، في لحظة خاصة، كما قال الآباء، ليرفعه من سقطته ويريه أن محبته أقوى من أي خطيئة. هذا الظهور، على الرغم من أن الأناجيل لم تعطِ تفاصيل عنه، كان كإعلان غفران شخصي. وعندما قال تلميذا عمواس: "الرب قام حقاً وظهر لسمعان" (لوقا 24: 34)، كانا يؤكدان أن بطرس رأى المسيح حقاً، وكان هذا دليلاً قوياً للتلاميذ على أن القيامة ليست حلماً، بل حقيقة.

كان الظهور لبطرس، كما شرح الآباء، أكثر من مجرد إثبات للقيامة. كان كرسالة من المسيح لبطرس تقول له: "أنا سامحتك، وما زلت أريدك." إنكار بطرس، الذي حدث بدافع الخوف، كان درساً لكل الكنيسة. قال الآباء إن القيامة ليست فقط انتصاراً على الموت، بل أيضاً انتصاراً على ضعفنا وخطايانا. بطرس، الذي سقط في لحظة خوف، عاد إلى المسيح بدموع توبته، والمسيح استقبله بمحبة لا حدود لها. كان هذا الظهور كبداية تجديد لبطرس، ليعود إلى دعوته كرسول. أكد الآباء أن غفران المسيح لبطرس يوضح سر الخلاص: مهما كانت الخطيئة كبيرة، نعمة المسيح أعظم، ودائماً تنتظر قلباً نادماً لتعيده إلى حضنه.

وعندما ذكر بولس أن يسوع "ظهر لكيفا، ثم للاثني عشر" (1 كورنثوس 15: 5)، كان يضع بطرس في أول قائمة شهود القيامة، وهذا يوضح أهمية هذا الظهور. قال الآباء إن اختيار المسيح لبطرس كواحد من أوائل الذين رأوه بعد القيامة كان تأكيداً على أن الله يستخدم الضعفاء والساقطين، عندما يتوبون، ليصبحوا أعمدة في ملكوته. بطرس، الذي شعر أنه فشل، رأى يسوع القائم، وهذا أعاد له الرجاء بأنه لا يزال له مكان في خطة الله. هذا الظهور، كما شرحوا، كان كالخطوة الأولى في مصالحة بطرس مع المسيح. لاحقاً، في الظهور السابع على بحر الجليل (يوحنا 21: 15-17)، سيكلف يسوع بطرس رسمياً برعاية خرافه، لكن هذه اللحظة كانت بداية الطريق، كما قال الآباء، ليعيد ثقة بطرس بنفسه وبدعوته.

إن اختيار يسوع أن يظهر لبطرس شخصياً، بعد كل ما حدث، يوضح محبة عجيبة. قال الآباء إن المسيح، بظهوره لبطرس، أظهر أن القيامة تجدد كل شيء، ليس فقط الجسد، بل أيضاً القلب الذي انكسر بالذنب. كان بطرس يمكن أن يظل غارقاً في ندمه، لكن يسوع أخذ المبادرة، كما يفعل دائماً، ليطمئنه أن الغفران موجود وكامل. هذا الظهور يعلمنا أنه مهما سقطنا، المسيح ينتظرنا لنعود إليه، ويفتح لنا طريقاً جديداً. وكما قال الآباء، محبة المسيح تصل إلى كل واحد شعر أنه فشل، وتمنحه فرصة جديدة ليخدم ويعيش الفرحة الحقيقية. هذا الظهور كالنور الذي يشرق من قلب الظلمة، يطمئن بطرس، ويطمئننا جميعاً، أن المسيح دائماً يمد يده ليرفعنا ويعيدنا إليه.

الظهور الرابع: لتلميذين في طريق عمواس

كان الظهور الرابع للسيد المسيح بعد قيامته لتلميذين في طريقهما إلى قرية عمواس، وهي قصة عميقة مليئة بالدروس الروحية عن الإيمان والكتب المقدسة وشركة المسيح.

الظهور الرابع: لتلميذين في طريق عمواس


في يوم الأحد، يوم القيامة، كان تلميذان، أحدهما اسمه كليوباس، يسيران من أورشليم نحو عمواس، وهي قرية تبعد حوالي ساعة ونصف سيراً على الأقدام. كانا حزينين جداً، يتحدثان عن يسوع، الذي رأياه يُصلب ومات، وكانا تائهين بعدما سمعا من النساء أن القبر فارغ. وبينما هما يتحدثان، فجأة ظهر يسوع نفسه وبدأ يمشي معهما، لكنهما لم يعرفاه! كانت أعينهما كأنها مغمضة، غير قادرين على تصديق أن الذي يسير بجانبهما هو المسيح. يسوع، بهدوء، بدأ يلومهما: "لماذا قلبكما ثقيل هكذا ولا تصدقون كلام الأنبياء؟" ثم أخذ نفساً طويلاً، وبدأ يشرح لهما من أول التوراة، من أسفار موسى، حتى كلام الأنبياء مثل إشعياء وداود، ويوضح لهما كيف أن كل النبوات كانت تتحدث عن آلامه وقيامته. كان التلميذان مندهشين، وقلوبهما بدأت تشعر بحرارة غريبة من كلامه. وعندما وصلا عمواس واقترب الليل، ألحا عليه: "ابق معنا، اليوم قد انتهى!" وافق يسوع، وجلس معهما على الطعام. أخذ الخبز، بارك، كسره، وأعطاه لهما. في هذه اللحظة، انفتحت أعينهما كأن الستارة قد أزيلت، وعرفا أنه يسوع! لكن فجأة، اختفى من أمامهما. نظرا إلى بعضهما وقالا: "ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا حين كان يكلمنا في الطريق وحين فتح لنا الكتب؟" ومن غير أن يضيعا ثانية، قاما وعادا إلى أورشليم في الليل، على الرغم من التعب، وحكيا للأحد عشر تلميذاً والذين معهم كيف رأيا يسوع وعرفاه عندما كسر الخبز.

شرح النص وتعاليم الآباء:

كان التلميذان في حالة حزن وتيه. يسوع، الذي كانا يحبانه ويؤمنان به، مات على الصليب، وكل أحلامهما بأنه سيكون المسيح المنقذ تبخرت. سمعا من النساء أن القبر فارغ، لكنهما لم يكونا قادرين على التصديق بعد. وبينما هما يسيران نحو عمواس، انضم يسوع إليهما، لكن أعينهما كانت "ممسوكة"، كما قال الكتاب (لوقا 24: 16). شرح الآباء أن عدم معرفتهما له في البداية ليس لأن يسوع كان متخفياً، بل لأن الحزن والشك كانا كغمامة على قلوبهما. القيامة، كما قالوا، تحتاج إلى نور إلهي لفهمها، وهذا لا يحدث إلا عندما يفتح الله العيون الروحية. كما أن جسد يسوع الممجد كان مختلفاً، ليس كقبل الصليب، وهذا يوضح أن القيامة غيرت طبيعته الجسدية، لكنه لا يزال هو المسيح الذي عاش معهما.

عندما بدأ يسوع يكلمهما، وبخهما بلطف: "يا بطيئي القلب في الإيمان بكل ما تكلم به الأنبياء" (لوقا 24: 25). هذا التوجيه، كما قال الآباء، لم يكن لإحراجهما، بل كطبيب يعالج جرحاً بكل حنان. كان يسوع يريد أن ينبههما أن الكتب المقدسة، من التوراة إلى الأنبياء، هي النور الذي يفهمهما خطة الله. بدأ يشرح لهما: من نبوات موسى عن الحية النحاسية (عدد 21: 9) التي كانت رمزاً للصليب، إلى كلام إشعياء عن خادم الرب الذي سيتألم ويقوم (إشعياء 53: 10-11)، حتى مزمور داود عن القدوس الذي لن يرى فساداً (مزمور 16: 10). قال الآباء إن شرح يسوع للكتب يوضح أن العهد القديم كله يشير إليه، والقيامة هي تتويج لكل هذه النبوات. كلامه كان كالمفتاح الذي يفتح عقولهما، ويعلمنا أن الكتب المقدسة هي الطريق الذي يمكننا من خلاله فهم سر الخلاص.

وبينما هما يستمعان، بدأت قلوبهما "تحترق"، كما قالا لاحقاً: "ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا حين كان يكلمنا في الطريق وحين فتح لنا الكتب؟" (لوقا 24: 32). شرح الآباء أن هذا الاحتراق هو قوة كلام المسيح، الذي كنار تطهر النفس وتنورها. كلامه ليس مجرد كلام بشري، بل هو روح وحياة، يحرك القلب ويجعله يشتاق إلى الله. شعر التلميذان بهذه الحرارة لأن يسوع كان يفتح لهما أعينهما الروحية تدريجياً، لكنهما لم يرياه حقاً بعد. وعندما وصلا عمواس وألحا عليه أن يبقى معهما، وافق يسوع، وهنا حدثت لحظة عجيبة. في الطعام، "أخذ الخبز وبارك وكسر وناولهم" (لوقا 24: 30). في هذه اللحظة، انفتحت أعينهما وعرفاه، وبعدها اختفى من أمامهما.

كسر الخبز، كما قال الآباء، ليس مجرد أكل عادي. هذه الحركة تذكر بالعشاء الرباني، عندما كسر يسوع الخبز وقال: "هذا هو جسدي" (لوقا 22: 19). أكد الآباء أن كسر الخبز هو رمز لسر الإفخارستيا، الذي فيه المسيح يظهر حضوره الحقيقي. في القداس، عندما نشارك في الخبز المقدس، نجد المسيح الحي، ونتحد به. عرف التلميذان يسوع في هذه اللحظة لأن الإفخارستيا، كما شرحوا، هي لقاء حقيقي مع المسيح القائم. هذا يعلمنا أن الأسرار، مثل القداس، هي وسيلة نرى بها المسيح بعيون الإيمان، حتى لو كنا كالتلميذين، لا نراه في البداية.

عندما اختفى يسوع، لم يجلس التلميذان يبكيان أو يستسلمان للحزن. بل على العكس، قاما على الفور، على الرغم من حلول الليل، وعادا إلى أورشليم ليبشرا التلاميذ. قال الآباء إن الفرحة التي ملأت قلوبهما هي ثمرة القيامة، التي تحول الحزن إلى نشاط وبشارة. الرحلة التي بدأت بحزن انتهت بفرحة عظيمة، لأن المسيح سار معهما، حتى وهما لا يعرفانه. هذا يوضح أن المسيح دائماً موجود معنا، حتى في لحظات الضياع، ويظهر لنا في كلامه وفي الأسرار. هذا الظهور كرحلة من الظلمة إلى النور، يعلمنا أن الكتب المقدسة تفتح عقولنا، والقداس يفتح أعيننا، وكلام المسيح يحرك قلوبنا لنعيش فرحة القيامة ونبشر بها كالتلميذين.

الظهور الخامس: للتلاميذ مجتمعين في أورشليم

كان الظهور الخامس للسيد المسيح بعد قيامته للتلاميذ وهم مجتمعون في أورشليم، وهي لحظة مليئة بالطمأنينة والتكليف العظيم. القصة تظهر لنا كيف يحول المسيح الخوف إلى سلام ويجهز تلاميذه للخدمة.

الظهور الخامس: للتلاميذ مجتمعين في أورشليم


في يوم الأحد، يوم القيامة، كان التلاميذ متجمعين في غرفة مغلقة في أورشليم، خائفين وقلقين. اليهود في الخارج يبحثون عنهم، وأخبار القبر الفارغ جعلتهم في دوامة من الحيرة. كان تلميذا عمواس لا يزالان يرويان عن لقائهما بيسوع، وفجأة، دون أن يفتح الباب، وقف يسوع في وسطهم! قال بصوته الهادئ: "السلام لكم!" أصاب التلاميذ الذهول، واتسعت عيونهم من الرعب، وظنوا أنهم يرون شبحاً. يسوع، بنظرة مليئة بالحنان، قال: "لماذا أنتم مضطربون؟ ولماذا الشك في قلوبكم؟ انظروا إلى يدي ورجلي، أنا هو بعينه. المسوني وتأكدوا، الشبح ليس له لحم وعظم كما ترونني." وأراهم يديه ورجليه، التي لا تزال عليها علامات المسامير، ليثبت أنه هو نفسه الذي تعذب وصلب. كان التلاميذ فرحين لكنهم لا يزالون لا يصدقون من كثرة الدهشة، فقال لهم: "هل عندكم هنا طعام؟" أحضروا له سمكة مشوية وقليلاً من العسل، وأكل أمامهم كشخص عادي، ليقنعهم أنه ليس خيالاً. ثم بدأ يتكلم: "هذا هو الكلام الذي قلته لكم وأنا معكم، أنه يجب أن يتم كل ما هو مكتوب عني في التوراة والأنبياء والمزامير." وبلمسة إلهية، فتح عقولهم ليفهموا الكتب المقدسة، وقال: "هكذا مكتوب أن المسيح يجب أن يتألم ويقوم في اليوم الثالث، وأن التوبة ومغفرة الخطايا تكرز باسمه لكل الأمم مبتدئين من أورشليم. وأنتم شهود على هذا. وأنا سأرسل لكم وعد أبي، لكن امكثوا في أورشليم حتى تلبسوا قوة من الأعالي." وفي لحظة أخرى، كما روى يوحنا، نفخ فيهم يسوع وقال: "اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه غفرت له، ومن أمسكتموها أمسكت" (يوحنا 20: 22-23). كان هذا الظهور كنسيم حياة، طرد الخوف من قلوب التلاميذ، وجهزهم لمهمة عظيمة.

شرح النص وتعاليم الآباء:

كان التلاميذ في حالة خوف واضطراب. الأبواب مغلقة، واليهود في الخارج يهددونهم، وأخبار القبر الفارغ جعلتهم لا يعرفون هل يصدقون أم يشكون. وسط هذا الجو، ظهر يسوع فجأة، دون أن يفتح باباً أو شباكاً، وقال: "السلام لكم!" (لوقا 24: 36). قال الآباء إن كلمة "السلام" هذه ليست مجرد تحية، بل هي عطية إلهية عميقة. فالمسيح، الذي انتصر على الموت، كان يزرع في قلوبهم سلاماً حقيقياً، يطرد الخوف ويحول القلق إلى فرحة. هذا السلام، كما شرحوا، هو ثمرة القيامة، لأنها صالحت البشر مع الله، ويصل إلى كل قلب مضطرب لكي يستريح في حضن الرب. التلاميذ، عندما رأوه واقفاً في وسطهم، أصابهم الذهول وظنوا أنه شبح (لوقا 24: 37). هذا الخوف، كما قال الآباء، يوضح أن عقولهم لم تستوعب بعد عظمة القيامة. لكن يسوع، بحنانه، لم يتركهم في خوفهم.

لتهدئتهم، قال يسوع: "انظروا يديّ وقدميّ إني أنا هو. جسّوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي" (لوقا 24: 39). وأراهم يديه ورجليه، التي لا تزال فيها علامات المسامير، وحثهم على لمسه. شرح الآباء أن هذا الفعل كان ضرورياً ليثبت أن القيامة ليست مجرد رؤيا روحية، بل حقيقة جسدية. فالمسيح قام بجسده الحقيقي، نفس الجسد الذي تعذب وصلب، لكنه الآن ممجد، متحرر من قيود الطبيعة البشرية. ظهوره في غرفة مغلقة (يوحنا 20: 19) يوضح أن جسده الممجد لم تعد له حدود مادية، كالأبواب أو الجدران، لكنه لا يزال جسداً حقيقياً يلمس ويأكل. وعندما كان التلاميذ لا يزالون لا يصدقون من كثرة الفرح، طلب يسوع طعاماً، فأعطوه سمكة مشوية وقليلاً من العسل، وأكل أمامهم (لوقا 24: 42-43). قال الآباء إن أكله أمامهم كان دليلاً قاطعاً على أن جسده حقيقي، لا خيال، ويثبت أن القيامة تشمل الجسد والروح معاً. هذا الفعل، كما شرحوا، يمنحنا رجاء بأننا سنقوم مثل المسيح، بأجساد ممجدة، لكن حقيقية.

بعد أن طمأن قلوبهم، بدأ يسوع يعلمهم: "هذا هو الكلام الذي كلمتكم به وأنا بعد معكم أنه ينبغي أن يتم جميع ما كتب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير" (لوقا 24: 44). وبلمسة إلهية، "فتح ذهنهم ليفهموا الكتب" (لوقا 24: 45). قال الآباء إن فتح عقولهم كان عمل الروح القدس، لأن الكتب المقدسة تحتاج إلى نور إلهي لكي تُفهم. شرح يسوع لهم كيف أن التوراة والأنبياء والمزامير كانت تتحدث عن آلامه وقيامته، من نبوة إشعياء عن خادم الرب (إشعياء 53) إلى مزمور داود عن القدوس الذي لن يرى فساداً (مزمور 16: 10). وكما شرحوا، المسيح هو مركز كل النبوات، والقيامة هي مفتاح فهم الكتب. كلامه هذا كان كالنور الذي يضيء عقول التلاميذ، ويعلمنا أن الكتب المقدسة هي الطريق الذي نرى به خطة الله.

ثم كلفهم يسوع بمهمة عظيمة: "هكذا مكتوب وهكذا كان ينبغي أن يتألم المسيح ويقوم من الأموات في اليوم الثالث، وأن يكرز باسمه بالتوبة وغفران الخطايا لجميع الأمم مبتدئين من أورشليم. وأنتم شهود على هذا" (لوقا 24: 46-48). ووعدهم: "وها أنا أرسل إليكم موعد أبي. ولكن أقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي" (لوقا 24: 49). قال الآباء إن هذا التكليف هو بداية رسالة الكنيسة، التي ستنشر الإنجيل لكل العالم. التوبة ومغفرة الخطايا، كما شرحوا، هي قلب البشارة، لأن القيامة فتحت باب الخلاص لكل البشر. وعد يسوع بالروح القدس كان كالوعد بالقوة التي ستساعدهم على مواجهة التحديات والتبشير بجرأة.

في لحظة أخرى، كما روى يوحنا، نفخ يسوع فيهم وقال: "اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياهم غفرت له، ومن أمسكتم خطاياهم أمسكت" (يوحنا 20: 22-23). قال الآباء إن هذا النفخ رمز لإعطاء الروح القدس، كبداية لعطية العنصرة الكبيرة. النفخ يذكر بخلق آدم، عندما نفخ الله فيه نسمة حياة (تكوين 2: 7)، وهنا يسوع ينفخ ليعطي التلاميذ حياة جديدة وقوة إلهية. سلطان مغفرة الخطايا، كما شرحوا، هو أساس خدمة الكنيسة، لأن المسيح أعطى تلاميذه القدرة على توزيع مغفرته للعالم. كان هذا الظهور كإعلان بأن الكنيسة ستكون أداة المسيح في نشر الخلاص.

يظهر لنا هذا الظهور أن المسيح دائماً يأتي وسط خوفنا ليطمئننا. سلامه يحول القلق إلى فرح، وكلامه ينور عقولنا لنفهم خطته. قيامته بجسده تمنحنا رجاء بأننا سنقوم مثله، والروح القدس هو الذي يمنحنا القوة لنكون شهوداً له. هذا الظهور كشعلة نور تطرد ظلمة الخوف، ويجهزنا كالتلاميذ لنحمل البشارة لكل العالم بنعمة الروح.

الظهور السادس: لتوما الشكاك

كان الظهور السادس للسيد المسيح بعد قيامته موجهاً بشكل خاص لتوما، التلميذ الذي شك في القيامة. هذه القصة مليئة بالرحمة والتعليم عن الإيمان، وتظهر لنا كيف يحترم المسيح ضعفنا ويساعدنا على التصديق.

الظهور السادس: لتوما الشكاك


بعد يوم القيامة بأسبوع، كان التلاميذ لا يزالون متجمعين في غرفة مغلقة في أورشليم، خائفين من اليهود ولا يزالون يحاولون استيعاب خبر القيامة. توما، واحد من الاثني عشر، لم يكن موجوداً عندما ظهر يسوع للتلاميذ في المرة السابقة. وعندما عاد وسمع منهم: "لقد رأينا الرب!"، كان توما في حالة صدمة وحزن من أحداث الصليب، فقال بتحدٍ: "إلا إذا رأيت علامة المسامير في يديه، وأدخلت إصبعي فيها، ووضعت يدي في جنبه، فلن أصدق أبداً!" بعد ثمانية أيام، كان التلاميذ متجمعين ثانية، وتوما كان معهم. فجأة، دون أن يفتح الباب، وقف يسوع في وسطهم وقال: "السلام لكم!" أصاب التلاميذ الذهول، لكن يسوع التفت إلى توما على الفور، وبنظرة حانية، قال له: "هات إصبعك إلى هنا وانظر يديّ، ومد يدك ضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً." توما، الذي كان قلبه مليئاً بالشك قبل دقائق، نظر في عيني يسوع ورأى جراحاته، ولم يستطع أن يمسك نفسه. صرخ من قلبه: "ربي وإلهي!" أجاب يسوع بهدوء: "لأنك رأيتني يا توما آمنت. طوبى للذين آمنوا ولم يروا." كانت هذه اللحظة كزلزال في قلب توما، حولته من الشك إلى إيمان عميق، وكانت رسالة لكل المؤمنين بعده أن الإيمان الحقيقي يمكن أن يعيش دون رؤية حسية.

شرح النص وتعاليم الآباء:

توما، الذي لقبوه "التوأم"، كان واحداً من أقرب الناس ليسوع، لكنه مر بأزمة إيمان كبيرة بعد الصليب. عندما قال له التلاميذ إنهم رأوا يسوع حياً، رفض توما التصديق. قال: "إلا إذا رأيت في يديه أثر المسامير، ووضعت إصبعي في أثر المسامير، ووضعت يدي في جنبه، لا أؤمن" (يوحنا 20: 25). شرح الآباء أن شك توما لم يكن عناداً، بل رغبة صادقة في التأكد من الحقيقة. كان حزيناً ومصدوماً من موت يسوع، ولم يستطع أن يتقبل فكرة القيامة دون دليل ملموس. هذا الشك، كما قالوا، يوضح ضعفنا كبشر، لكن المسيح لم يرفض توما ولم يعاتبه بقسوة. بدلاً من أن يتركه في شكه، أخذ المبادرة وظهر ثانية ليساعده على الإيمان.

بعد ثمانية أيام، كان التلاميذ متجمعين في غرفة مغلقة، وتوما معهم. فجأة، ظهر يسوع وسطهم، على الرغم من أن الأبواب كانت موصدة (يوحنا 20: 26). قال الآباء إن ظهوره دون فتح الأبواب يثبت أن جسده الممجد تحرر من قيود المادة، كالجدران والأبواب، لكنه لا يزال جسداً حقيقياً، يلمس ويتراءى. بدأ يسوع بتحية "السلام لكم"، ليطمئن الجميع، لكن عينيه كانت على توما. التفت إليه وقال: "هات إصبعك إلى هنا وانظر يديّ، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً" (يوحنا 20: 27). شرح الآباء أن يسوع، بعرضه أن يلمس توما جراحاته، كان يحترم ضعف توما ويجيب على طلبه بالضبط. هذه الجراحات، كعلامات المسامير والطعنة في جنبه، كانت دليلاً على أن الجسد الذي قام هو نفس الجسد الذي تألم ومات. قال الآباء إن يسوع احتفظ بالجراحات في جسده الممجد ليس لكونها عيباً، بل لتكون شهادة أبدية على محبته وخلاصه. هذه الجراحات أصبحت كتذكار لانتصاره، وتطمئننا أن آلامه كانت لأجلنا.

عندما رأى توما يسوع وسمع كلامه، لم يحتج إلى أن يمد يده. نظرة يسوع وكلامه كفيا لتحويل شكه إلى إيمان عميق. صرخ: "ربي وإلهي!" (يوحنا 20: 28). قال الآباء إن هذه الكلمة من أقوى الشهادات في الإنجيل عن ألوهية المسيح. توما، الذي كان شاكاً قبل لحظات، أعلن أن يسوع ليس فقط رباً ومعلماً، بل إلهاً حقيقياً. هذا الاعتراف، كما شرحوا، هو صوت الكنيسة كلها، التي تؤمن أن المسيح هو الله المتجسد، الذي تألم وقام ليخلصنا. تحول توما من الشك إلى الإيمان يوضح أن المسيح قادر على تغيير أي قلب، حتى لو كان مليئاً بالتردد.

أجاب يسوع توما: "لأنك رأيتني يا توما آمنت. طوبى للذين آمنوا ولم يروا" (يوحنا 20: 29). قال الآباء إن هذا الكلام رسالة لكل المؤمنين عبر العصور، مثلنا، الذين لم يروا يسوع بجسده. يسوع يبارك الذين يؤمنون بناءً على الكتاب المقدس وشهادة التلاميذ، دون الحاجة إلى دليل حسي. الإيمان دون رؤية، كما شرحوا، هو إيمان أعظم، لأنه مبني على ثقة في كلام الله ونعمة الروح القدس. هذه الكلمة تشجعنا على الثقة في شهادة الرسل، الذين كتوما رأوا المسيح ولمسوه، وبنوا الكنيسة على إيمانهم.

رحمة يسوع على توما، كما قال الآباء، هي درس لكل واحد منا. المسيح لم يرفض شك توما ولم يطرده، لكنه ساعده على إيجاد الإيمان بطريقته. هذه الرحمة تعلمنا أن يسوع يحترم ضعفنا، ويستقبل الشاكين بنفس الحنان الذي استقبل به توما. إن يسوع سمح لتوما بلمس جراحاته يثبت أن قيامته كانت بالجسد الحقيقي، لا رؤيا ولا شبحاً. أكد الآباء أن لمس الجراحات هذا دليل على حقيقة القيامة الجسدية، ويمنحنا رجاء بأننا سنقوم بأجساد ممجدة مثل المسيح. هذا الظهور كجسر يوصل بين الشك والإيمان، يوضح لنا أن المسيح يستقبلنا كما نحن، ويساعدنا على اكتشاف أنه ربنا وإلهنا، حتى لو بدأنا بالتردد.

الظهور السابع: لسبعة من تلاميذه على بحر الجليل

كان الظهور السابع للسيد المسيح بعد قيامته لسبعة من تلاميذه على بحر الجليل، وهي قصة مليئة بالمحبة، الغفران، والتكليف العظيم، خصوصاً لبطرس. القصة تظهر لنا كيف يرعى المسيح تلاميذه ويجدد دعوتهم حتى بعد ضعفهم.

الظهور السابع: لسبعة من تلاميذه على بحر الجليل


بعد أحداث القيامة، كان سبعة من التلاميذ، سمعان بطرس وتوما ونثنائيل وابنا زبدي (يعقوب ويوحنا) واثنان آخران، في الجليل على شاطئ البحر. بطرس، الذي كان لا يزال متأثراً بإنكاره ليسوع، قال: "أنا ذاهب لأصطاد." فقال الباقون: "سنأتي معك." انطلقوا في مركب وظلوا يصطادون طوال الليل، لكنهم لم يصطادوا سمكة واحدة. كان الإحباط يسيطر عليهم، ومع طلوع الفجر، رأوا شخصاً واقفاً على الشاطئ، لكنهم لم يعرفوه. كان يسوع، لكن عيونهم كانت كأنها مغمضة. ناداهم: "يا أولاد، هل عندكم شيء للأكل؟" قالوا: "لا، ليس عندنا." فقال لهم: "ألقوا الشبكة إلى الجانب الأيمن من السفينة، وستجدون." دون نقاش، أطاعوا كلامه، وألقوا الشبكة، وفجأة امتلأت بسمك كثير، 153 سمكة بالضبط، لدرجة أنهم لم يستطيعوا سحبها! يوحنا، التلميذ الذي كان يسوع يحبه، عرف على الفور وقال لبطرس: "إنه الرب!" بطرس، من شدة فرحته، لبس ثيابه ونط في الماء ليسبح إلى الشاطئ. سحب الباقون المركب والشبكة المليئة. وعندما وصلوا، وجدوا ناراً موقدة وسمكاً مشوياً وخبزاً جاهزاً، ويسوع نفسه واقفاً يجهز الفطور. دعاهم: "تعالوا كلوا." أكلوا معه في جو مليء بالمحبة، وكانوا يعلمون أنه الرب، على الرغم من دهشتهم كيف هو موجود معهم هكذا. كانت هذه المرة الثالثة التي يظهر فيها يسوع للتلاميذ كمجموعة بعد قيامته. بعد الأكل، التفت يسوع إلى بطرس وسأله: "يا سمعان بن يونا، أتحبني أكثر من هؤلاء؟" أجاب بطرس: "نعم يا رب، أنت تعلم أني أحبك." فقال يسوع: "ارعَ حملاني." وسأله ثانية: "أتحبني؟" فقال بطرس: "نعم، أحبك." فأجاب يسوع: "ارعَ خرافي." وسأله ثالث مرة: "يا سمعان، أتحبني؟" فحزن بطرس لأنه سأله ثلاث مرات، وقال: "يا رب، أنت تعلم كل شيء، أنت تعرف أني أحبك." فقال يسوع: "ارعَ خرافي." كانت هذه اللحظة كحضن من يسوع لبطرس، يطمئنه أنه قد سامحه وما زال يريده أن يرعى كنيسته.

شرح النص وتعاليم الآباء:

كان التلاميذ في الجليل، كما أمرهم يسوع من قبل (متى 28: 10). بطرس، الذي كان لا يزال متأثراً بإنكاره ليسوع ثلاث مرات قبل الصليب (لوقا 22: 54-62)، قرر العودة إلى عمله القديم، الصيد، ربما ليشعر بأنه يفعل شيئاً مألوفاً وسط حيرته. ذهب الباقون معه، لكنهم طوال الليل لم يصطادوا شيئاً، وكان الإحباط يتزايد. مع طلوع الشمس، وقف يسوع على الشاطئ، لكن التلاميذ لم يعرفوه (يوحنا 21: 4). شرح الآباء أن عدم معرفتهم له في البداية كان بسبب أن جسده الممجد كان مختلفاً، ليس كشكله قبل القيامة، وأيضاً لأن إحباطهم من الصيد الفاشل أعمى قلوبهم. يسوع، بحنانه، ناداهم: "يا أولاد، هل عندكم شيء للأكل؟" (يوحنا 21: 5). هذه الكلمة، كما قالوا، مليئة بالمحبة، وكأنه يطمئنهم أنه مهتم بهم حتى في أصغر احتياجاتهم.

عندما قال لهم: "ألقوا الشبكة إلى جانب السفينة الأيمن فتجدوا" (يوحنا 21: 6)، وأطاعوا كلامه، امتلأت الشبكة بـ 153 سمكة، ومع ذلك لم تتمزق. قال الآباء إن هذه المعجزة تذكر بمعجزة الصيد الأولى (لوقا 5: 4-7)، عندما دعا يسوع بطرس وغيره ليكونوا صيادين نفوس. امتلاء الشبكة بالسمك الكثير يرمز إلى كثرة الناس الذين سيدخلون الإيمان من كل الأمم بفضل كرازة التلاميذ. الشبكة التي لم تتمزق، كما شرحوا، هي صورة للكنيسة، التي تجمع كل الشعوب في وحدة دون انقسام، بقوة المسيح. هذه المعجزة كانت كإشارة للتلاميذ أن خدمتهم لن تنجح إلا إذا أطاعوا كلام يسوع واتكلوا عليه.

عندما عرف يوحنا أنه الرب وقال لبطرس، قفز بطرس في الماء من شدة فرحته ليصل إلى يسوع (يوحنا 21: 7). قال الآباء إن حركة بطرس هذه تعبر عن محبته العميقة ليسوع، على الرغم من إنكاره السابق. وعندما وصلوا الشاطئ، وجدوا يسوع قد جهز لهم فطوراً بنفسه: ناراً موقدة، سمكاً مشوياً، وخبزاً جاهزاً (يوحنا 21: 9). شرح الآباء أن هذه الرعاية توضح أن المسيح هو الراعي الصالح، الذي لا يخلص تلاميذه فحسب، بل يهتم بكل تفاصيل حياتهم، من الجسدية إلى الروحية. النار والسمك والخبز، كما قالوا، يرمزون إلى الإفخارستيا، التي فيها يسوع يقدم نفسه طعاماً روحياً يغذي الكنيسة ويمنحها الحياة الأبدية. إن يسوع دعاهم ليأكلوا معه كان كدعوة لشركة عميقة معه، ويعلمنا أن القداس هو المكان الذي نجد فيه المسيح الحي.

بعد الأكل، التفت يسوع إلى بطرس وسأله: "سمعان بن يونا، أتحبني أكثر من هؤلاء؟" (يوحنا 21: 15). أجاب بطرس: "نعم يا رب، أنت تعلم أني أحبك." فقال يسوع: "ارعَ حملاني." وسأله ثانية: "سمعان بن يونا، أتحبني؟" فقال بطرس: "نعم يا رب، أنت تعلم أني أحبك." فأجاب يسوع: "ارعَ خرافي." وسأله ثالث مرة: "سمعان بن يونا، أتحبني؟" فحزن بطرس لأنه سأله ثلاث مرات، وقال: "يا رب، أنت تعلم كل شيء، أنت تعرف أني أحبك." فقال يسوع: "ارعَ خرافي" (يوحنا 21: 15-17). قال الآباء إن السؤال ثلاث مرات يقابل إنكار بطرس ثلاث مرات قبل الصليب. يسوع، بسؤاله، كان يعالج جرح بطرس، ويطمئنه أن غفرانه كامل. كل مرة يؤكد بطرس حبه، يكلفه يسوع برعاية كنيسته، وهذا يوضح أن المسيح لم يسامحه فحسب، بل جدد دعوته ليكون راعياً للكنيسة. شرح الآباء أن هذا التكليف يثبت أن يسوع يرفع الساقطين، ويحول ضعفهم إلى قوة عندما يتوبون ويحبونه بصدق.

كان هذا الظهور كدعوة دافئة من المسيح لتلاميذه، خصوصاً بطرس. معجزة الصيد تعلمنا أن خدمتنا تكون مثمرة عندما نطيع كلام يسوع. رعايته لهم بالفطور توضح أنه مهتم بكل شيء فينا، ويظهر لنا في القداس كل يوم. غفرانه لبطرس وتجديد دعوته يطمئننا أنه مهما أخطأنا، التوبة تعيدنا إلى خدمة الله. هذا الظهور كنار موقدة على شاطئ البحر، تدفئ قلوب التلاميذ وتجدد رجاءهم، ويدعونا لنعيش محبة المسيح ونخدمه بإخلاص.

الظهور الثامن: لأكثر من خمسمائة أخ

كان الظهور الثامن للسيد المسيح بعد قيامته لحشد كبير، أكثر من 500 شخص في وقت واحد، كما ذكر الرسول بولس في رسالته الأولى لأهل كورنثوس. هذه القصة، على الرغم من أنها جاءت دون تفاصيل كثيرة، تقدم دليلاً قوياً جداً على حقيقة القيامة.

الظهور الثامن: لأكثر من خمسمائة أخ


بعد قيامته، ظهر يسوع في لحظة عظيمة لأكثر من خمسمائة شخص في وقت واحد، كما قال الرسول بولس في رسالته الأولى لأهل كورنثوس (1 كورنثوس 15: 6). كان هذا المشهد كاحتفال كبير بالقيامة، حيث أظهر المسيح نفسه ليس فقط للتلاميذ المقربين، بل لجموع من المؤمنين، رجالاً ونساءً، الذين كانوا يتبعونه. تخيل المئات هؤلاء، من كل مكان، متجمعين، وفجأة يظهر يسوع أمامهم، حياً، بجسده الممجد، ليثبت لهم أنه انتصر على الموت! كتب بولس أن معظم الخمسمائة هؤلاء كانوا لا يزالون أحياء وقت كتابة الرسالة، أي حوالي سنة 55 ميلادية، وكأنه يقول للناس: "إذا لم تصدقوا، اذهبوا واسألوا الشهود بأنفسكم!" هذا الظهور، على الرغم من أن الأناجيل لم تعطِ عنه تفاصيل كالمكان أو التوقيت، كان كختم قوي على حقيقة القيامة، لأنه ليس من الممكن أن يرى مئات الأشخاص نفس الشيء لو كان مجرد خيال. كان هذا المشهد إعلاناً عاماً بأن المسيح قد قام، ويثبت أن إيماننا مبني على أساس متين.

شرح النص وتعاليم الآباء:

الرسول بولس، عندما كتب رسالته لأهل كورنثوس، كان يدافع عن القيامة ضد المشككين الذين كانوا يقولون إن الموت نهاية كل شيء. قال في رسالته: "ثم إنه ظهر لأكثر من خمسمائة أخ بمرة واحدة، الذين أكثرهم باقٍ إلى الآن، ولكن بعضهم قد رقدوا" (1 كورنثوس 15: 6). كان هذا الكلام كقنبلة في وجه أي أحد يشكك في القيامة. تخيل أن أكثر من 500 شخص، رجالاً ونساءً، مؤمنين بيسوع، رأوه حياً في نفس اللحظة! قال الآباء إن هذا العدد الكبير دليل لا يمكن الجدال فيه. ليس من الممكن أن يتفق مئات الأشخاص على وهم أو يحلموا نفس الحلم. قال يوحنا ذهبي الفم إن هذا الظهور كبرهان قاطع، لأن عدد الشهود الكبير يجعل فكرة الخداع أو الخيال مستحيلة. أضاف كيرلس الكبير أن المسيح، بظهوره للجموع، كان يعلن انتصاره على الموت بشكل عام، ليس فقط للتلاميذ المقربين، ليثبت أن القيامة هدية لكل البشر.

زاد بولس قوة كلامه عندما قال إن معظم هؤلاء الشهود كانوا لا يزالون أحياء وقت كتابة الرسالة. شرح الآباء أن هذا كان تحدياً جريئاً من بولس. وكأنه يقول: "إذا لم تصدق، اذهب واسأل الخمسمائة هؤلاء، معظمهم موجودون وسوف يخبرونك الحقيقة!" قال أثناسيوس الرسولي إن بولس، بذكره أن الشهود لا يزالون أحياء، كان يدعو الناس للتحقق بأنفسهم، وهذا يوضح ثقته المطلقة في صدق القيامة. أضاف يوحنا ذهبي الفم أن هذا التحدي كان يغلق باب الشك، لأنه لو كانت القيامة كذباً، لما تجرأ بولس على قول ذلك، لأن الناس كانوا سيكتشفون الكذب بسهولة. إن بولس يذكر الناس أنهم يستطيعون سؤال الشهود بأنفسهم كان كدعوة مفتوحة للبحث عن الحقيقة، ويعلمنا أن إيماننا بالقيامة مبني على أدلة قوية ويمكن التأكد منها.

كان هذا الظهور، كما قال الآباء، حدثاً عاماً، ليس تجربة خاصة لشخص واحد أو اثنين. شرح كيرلس الكبير أن يسوع، عندما ظهر للجموع، كان يعلن أن القيامة ليست سراً بين التلاميذ، بل حقيقة لكل الذين آمنوا به. العدد الكبير، أكثر من 500، يثبت أن القيامة لم تكن حلماً ولا رؤيا فردية، بل حدثاً حقيقياً شهده جمهور واسع. قال أثناسيوس الرسولي إن هذا الظهور يؤكد أن القيامة هي أساس الإيمان المسيحي، لأنها ليست قصة خيالية، بل واقع شهده مئات الأشخاص. أكد الآباء أن ظهور المسيح لعدد كبير كهذا ينسف أي فكرة أن القيامة كانت وهماً أو خداعاً. ليس من الممكن أن يكون كل هؤلاء الشهود مخطئين أو متفقين على كذبة. كان هذا الظهور كإعلان قوي للعالم كله أن المسيح قد قام حقاً، وأن الحياة انتصرت على الموت.

يمنحنا هذا الظهور دروساً عميقة. أولاً، كما علم كيرلس الكبير، أن القيامة حدث جماعي، ليس فقط للتلاميذ، بل لكل المؤمنين. نحن أيضاً جزء من هذه الجموع، لأن إيماننا يربطنا بهذه الشهادة. ثانياً، يذكرنا أثناسيوس الرسولي أن إيماننا مبني على شهادة الذين رأوا المسيح، وبولس قدم هؤلاء الشهود كدليل قوي يمكننا الثقة به. ثالثاً، يؤكد يوحنا ذهبي الفم أن جرأة بولس في دعوة الناس للتحقق من الحقيقة تعلمنا أن نقدم إيماننا بثقة، لأننا نعلم أنه مبني على حقيقة تاريخية. هذا الظهور كصوت جهوري يصدح في العالم، يعلن أن المسيح قد قام، ويحثنا على أن نعيش هذا الإيمان ونشاركه مع غيرنا بكل قوة.

الظهور التاسع: ليعقوب

كان الظهور التاسع للسيد المسيح بعد قيامته ليعقوب، كما ذكر الرسول بولس في رسالته الأولى لأهل كورنثوس. هذا الظهور، على الرغم من أنه جاء دون تفاصيل كثيرة في الكتاب المقدس، يحمل معنى عميقاً عن قوة القيامة التي تحول حتى الشاكين إلى مؤمنين.

الظهور التاسع: ليعقوب


بعد قيامته، ظهر يسوع ليعقوب، كما ذكر الرسول بولس في رسالته الأولى لأهل كورنثوس (1 كورنثوس 15: 7). يعقوب هذا، على الأرجح، هو يعقوب البار، أخو يسوع غير الشقيق، الذي كان من عائلته المقربة لكنه لم يكن مؤمناً به أثناء حياته على الأرض. تخيل المشهد: يعقوب، الذي كان يرى يسوع كأخيه فقط، وربما كان يستغرب من كلامه عن نفسه كالمسيح، فجأة يرى يسوع قائماً من الموت، واقفاً أمامه، حياً وبجسده الممجد! الكتاب المقدس لم يعطِ تفاصيل عن المكان أو الوقت، لكن هذا الظهور كان كصدمة غيرت حياة يعقوب. فمن شخص لم يكن مصدقاً، أصبح واحداً من أكبر قادة الكنيسة الأولى في أورشليم، وكتب رسالة يعقوب في العهد الجديد. هذه اللحظة، على الرغم من أنها جاءت في جملة صغيرة عند بولس، كانت كالمفتاح الذي فتح قلب يعقوب، وحولته من شك إلى إيمان عميق، وأظهرت أن قوة القيامة تصل إلى جميع الناس، حتى الذين كانوا أقرب ليسوع ولم يؤمنوا به في البداية.

شرح النص وتعاليم الآباء:

الرسول بولس، وهو يدافع عن حقيقة القيامة في رسالته لأهل كورنثوس، قال: "ثم إنه ظهر ليعقوب، ثم لجميع الرسل" (1 كورنثوس 15: 7). يعقوب هذا، كما يقول التقليد الكنسي، هو يعقوب البار، أخو يسوع غير الشقيق، الذي ذُكر في الأناجيل كواحد من إخوته (متى 13: 55، مرقس 6: 3). الكتاب يحكي أن إخوة يسوع، بمن فيهم يعقوب، لم يكونوا مؤمنين به أثناء خدمته على الأرض. قال يوحنا: "لأنه ولا إخوته كانوا يؤمنون به" (يوحنا 7: 5). ربما كان يعقوب يرى يسوع كأخيه فقط، ولم يكن مقتنعاً بأنه المسيح الذي يتحدث عنه الأنبياء. شرح الآباء أن موقف يعقوب هذا يوضح أن حتى أقرب الناس ليسوع كانوا بحاجة إلى نور القيامة لكي يؤمنوا به. لكن عندما ظهر يسوع له بعد القيامة، كانت هذه اللحظة كزلزال في قلبه.

على الرغم من أن الكتاب لم يعطِ تفاصيل عن هذا الظهور، قال الآباء إنه كان لحظة حاسمة غيرت يعقوب من شخص شاك إلى واحد من أعمدة الكنيسة. قال يوحنا ذهبي الفم إن ظهور المسيح ليعقوب يثبت قوة القيامة، التي تستطيع تحويل حتى القلوب التي كانت بعيدة عن الإيمان. أضاف كيرلس الكبير أن هذا الظهور يوضح أن القيامة ليست فقط للتلاميذ المقربين، لكنها دعوة لكل الناس، حتى الذين كانوا شاكين كيعقوب. هذا الظهور، كما شرحوا، كان كنور إلهي دخل قلب يعقوب، وحوله من شخص لم يكن مصدقاً إلى شاهد قوي للمسيح القائم.

يعقوب، بعد هذا الظهور، أصبح رئيس الكنيسة في أورشليم (أعمال 15: 13، غلاطية 1: 19)، وكان معروفاً بلقب "البار" بسبب تقواه وإخلاصه. كتب رسالة يعقوب، التي تتحدث عن الإيمان العملي وحياة التقوى. قال الآباء إن تحول يعقوب من عدم إيمان إلى قيادة الكنيسة هو معجزة القيامة نفسها. شرح أثناسيوس الرسولي أن يعقوب، الذي كان من أقرب الناس ليسوع ومع ذلك لم يؤمن به في البداية، صار شاهداً عظيماً للقيامة، وهذا يثبت أن نعمة المسيح تصل إلى أي أحد، مهما كان بعيداً. قال كيرلس الكبير إن قيادة يعقوب للكنيسة بعد هذا الظهور تعلمنا أن المسيح يختار من يشاء، حتى الشاكين، ويحولهم إلى رسل يخدمون ملكوته.

إن اختيار يسوع أن يظهر ليعقوب، أخيه غير الشقيق، يوضح محبته العميقة التي تصل إلى الجميع، حتى الذين لم يكونوا مقتنعين به. قال الآباء إن هذا الظهور كرسالة أن القيامة ليست فقط حدثاً تاريخياً، بل قوة إلهية تغير القلوب. أكد يوحنا ذهبي الفم أن تحول يعقوب دليل على أن حقيقة القيامة لا يمكن مقاومتها، لأنها غيرت شخصاً كيعقوب من شاك إلى مؤمن يخدم المسيح بكل قلبه. أضاف أثناسيوس الرسولي أن هذا الظهور يطمئننا أنه لا يوجد أحد بعيد عن المسيح، سواء كان من عائلته أو من أي مكان، لأن القيامة تفتح كل الأبواب.

يمنحنا هذا الظهور دروساً عميقة. أولاً، كما علم كيرلس الكبير، أن القيامة تستطيع تحويل أي قلب، حتى لو كان شاكاً كيعقوب. ثانياً، يذكرنا أثناسيوس الرسولي أن محبة المسيح تصل إلى الجميع، حتى الذين كانوا بعيدين عن الإيمان، وتجعلهم شهوداً لمجده. ثالثاً، يؤكد يوحنا ذهبي الفم أن تحول يعقوب يثبت قوة القيامة، التي لا تجعلنا نؤمن فحسب، بل تمنحنا دوراً في خدمة المسيح. هذا الظهور كشعاع نور دخل قلب يعقوب، وحوله من شخص بعيد إلى راعٍ للكنيسة، ويعلمنا أن المسيح يبحث عن كل واحد منا، ليفتح قلوبنا ويجعلنا جزءاً من خطته العظيمة.

الظهور العاشر: للأحد عشر تلميذاً على جبل في الجليل (التكليف العظيم)

كان الظهور العاشر للسيد المسيح بعد قيامته للأحد عشر تلميذاً على جبل في الجليل، وهو المعروف بـ"التكليف العظيم". تمثل هذه القصة نقطة تحول كبيرة، لأن المسيح يكلف تلاميذه بنشر الإنجيل لكل العالم، ويؤكد سلطانه ووعده بأنه سيبقى معهم دائماً.

الظهور العاشر: للأحد عشر تلميذاً على جبل في الجليل (التكليف العظيم)


بعد القيامة، نفذ الأحد عشر تلميذاً أوامر يسوع وذهبوا إلى الجليل، على جبل معين هو الذي حدده لهم (متى 28: 16). كانوا لا يزالون يحاولون استيعاب كل ما حدث، من الصليب إلى القبر الفارغ إلى ظهورات يسوع. وعندما وصلوا الجبل، رأوا يسوع واقفاً أمامهم، حياً وبجسده الممجد. سجد معظمهم له على الفور، من شدة إيمانهم وتوقيرهم، لكن بعضهم كانوا لا يزالون مترددين، عيونهم تنظر إلى الأرض، وقلوبهم فيها قليل من الشك (متى 28: 17). يسوع، بحنانه، لم يعاتب الذين شكوا، لكنه اقترب منهم جميعاً وكلمهم بصوت مليء بالسلطان: "أُعطيت لي كل سلطان في السماء وعلى الأرض. اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يعملوا بكل ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر. آمين" (متى 28: 18-20). كان هذا الكلام، الذي يُعرف بـ"التكليف العظيم"، كإعلان ملكي من المسيح، يمنح التلاميذ مهمة عالمية: نشر الإنجيل ليس فقط لليهود، بل لجميع الناس في كل مكان. وعد يسوع بأنه سيبقى معهم دائماً كان كنسيم طمأنينة، يؤكد لهم أنه مهما واجهوا صعوبات، سيكون بجانبهم. كان هذا الظهور كبداية جديدة للكنيسة، ويوضح أن المسيح، الذي انتصر على الموت، يريد أن يصل نوره إلى كل العالم.

شرح النص وتعاليم الآباء:

الأحد عشر تلميذاً، بعدما رأوا يسوع عدة مرات بعد قيامته، نفذوا أوامره وذهبوا إلى الجليل، المكان الذي بدأت فيه خدمته منذ سنوات. يسوع اختار جبلاً معيناً لهذا اللقاء، وشرح الآباء أن الجبل ليس مجرد مكان، بل هو رمز للقرب من الله. فكما أخذ موسى الناموس على جبل سيناء، وأعلن يسوع التجلي على جبل، كان هذا الظهور لحظة إلهية عظيمة. قال يوحنا ذهبي الفم إن اختيار الجبل يوضح علو الرسالة التي سيكلف بها المسيح تلاميذه، وأضاف كيرلس الكبير أن الجبل مكان الوحي، وهنا يسوع يفتح عهداً جديداً للخلاص العالمي.

عندما رأى التلاميذ يسوع، سجد معظمهم له على الفور، علامة على أنهم عرفوه كرب وإله (متى 28: 17). لكن الكتاب يقول إن "بعضهم شكوا". شرح الآباء أن هذا الشك يوضح أن الإيمان رحلة، وحتى الذين رأوا يسوع بأنفسهم كانوا لا يزالون يتصارعون مع استيعاب عظمة القيامة. قال أثناسيوس الرسولي إن هذا الشك يعلمنا أن الإيمان ينمو بالتدريج، ويسوع، بدلاً من أن يرفض الشاكين، قربهم وكلفهم بالرسالة، ليثبت أن نعمته تكمل ضعفنا. أضاف يوحنا ذهبي الفم أن الشك لم يمنعهم من السجود، وهذا يوضح أنهم، حتى في ترددهم، عرفوا أن يسوع هو الرب، ويعلمنا أن الإيمان يبدأ بتسليم القلب، حتى لو كانت هناك لحظات ضعف.

بدأ يسوع كلامه بإعلان قوي: "أُعطيت لي كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (متى 28: 18). قال الآباء إن هذا الكلام يؤكد ألوهية المسيح وسلطانه المطلق بعد قيامته. شرح كيرلس الكبير أن يسوع، بانتصاره على الموت، أصبح سيد الكون كله، وسلطانه هذا هو مصدر قوة الكنيسة في نشر الإنجيل. أضاف أثناسيوس الرسولي أن القيامة كانت تتويجاً لخلاص البشرية، وإعلان يسوع عن سلطانه يثبت أنه الملك الذي يدعو جميع الناس إلى ملكوته. كان هذا الكلام كأساس قوي للتكليف الذي جاء بعده.

ثم كلفهم يسوع بالمهمة العظيمة: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" (متى 28: 19-20). قال الآباء إن هذا الأمر غير قواعد اللعبة. يسوع لم يكلفهم فقط بالذهاب إلى اليهود، كما كان في خدمته، بل قال "جميع الأمم"، أي جميع البشر في كل مكان. شرح يوحنا ذهبي الفم أن هذا يوضح أن الإنجيل ليس لشعب واحد، بل لكل إنسان، والمعمودية هي الباب الذي يدخل منه الناس إلى ملكوت الله. قال كيرلس الكبير إن القيامة فتحت باب الخلاص لكل البشرية، والمعمودية باسم الثالوث القدوس هي بداية الحياة الجديدة في المسيح. صيغة المعمودية، كما شرح أثناسيوس الرسولي، تؤكد إيمان الكنيسة بالثالوث، وتجعل المؤمن يتحد بالله الواحد في ثلاثة أقانيم.

أخيراً، وعد يسوع: "وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (متى 28: 20). قال الآباء إن هذا الوعد كقلب التكليف العظيم. شرح يوحنا ذهبي الفم أن حضور المسيح الدائم هو سر قوة الكنيسة، لأنه يرافقها بنعمته في كل التحديات، ويمنحها ثباتاً مهما كانت الصعوبات. أضاف كيرلس الكبير أن المسيح موجود في كلمة الكنيسة وأسرارها، كالقداس والمعمودية، ويقودها بنوره حتى الحياة الأبدية. كان هذا الوعد كطمأنينة للتلاميذ، يؤكد لهم أنهم ليسوا وحدهم في هذه المهمة العالمية.

يمنحنا هذا الظهور دروساً عميقة. أولاً، كما علم كيرلس الكبير، التكليف العظيم ليس فقط للتلاميذ، بل لكل مؤمن. كلنا مدعوون لنكون شهوداً للمسيح في حياتنا. ثانياً، يذكرنا أثناسيوس الرسولي أن يسوع، الذي له كل السلطان، هو الذي يمنحنا القوة لنشر الإنجيل بثقة، لأن هذا السلطان يغطي الكون كله. ثالثاً، يؤكد يوحنا ذهبي الفم أن وعد المسيح بأنه معنا دائماً يمنحنا أماناً، لنعيش الخدمة دون خوف. هذا الظهور كإعلان ملكي من المسيح، يأمرنا بنشر نوره لكل العالم، ويطمئننا أنه سيبقى بجانبنا في كل خطوة.

الظهور الأخير: الصعود إلى السماء

كان الظهور الأخير ليسوع قبل صعوده إلى السماء في بيت عنيا، قرب جبل الزيتون، ويمثل ختام ظهوراته الجسدية على الأرض وبداية حكمه المجيد في السماء. هذه القصة مليئة بالفرح والوعد بالرجوع، وتظهر لنا كيف تحول التلاميذ من خوف إلى ثقة عظيمة.

الظهور الأخير: الصعود إلى السماء


في آخر لحظة ليسوع على الأرض قبل أن يصعد إلى السماء، أخذ تلاميذه إلى بيت عنيا، قرية صغيرة قريبة من جبل الزيتون. كانوا واقفين معه، عيونهم مليئة بالدهشة وقلبهم فيه خليط من الفرح والتوقع. نظر يسوع إليهم بحنان، رفع يديه وباركهم، كأب يودع أولاده لكنه يترك لهم قوة إلهية (لوقا 24: 50). وبينما هو يباركهم، فجأة بدأ يرتفع عن الأرض، جسده الممجد يصعد إلى أعلى، وسحابة نورانية غطته وأخذته من أعينهم (لوقا 24: 51، أعمال 1: 9). كان التلاميذ ينظرون إلى السماء، أفواههم مفتوحة، غير مصدقين لما يحدث. وبينما هم واقفون هكذا، ظهر لهم اثنان بثياب بيضاء، كالملائكة، وقالا: "أيها الرجال الجليليون، لماذا تقفون تنظرون إلى السماء؟ يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء" (أعمال 1: 10-11). التلاميذ، بدلاً من أن يحزنوا أو يخافوا، عادوا إلى أورشليم مليئين بفرح عظيم، وأصبحوا يقضون أيامهم في الهيكل يسبحون الله ويشكرونه (لوقا 24: 52-53). كانت هذه اللحظة كختام عظيم لظهورات يسوع، وبداية جديدة للتلاميذ، الذين تحولوا من خوف إلى ثقة قوية، ينتظرون الروح القدس كما وعدهم.

شرح النص وتعاليم الآباء:

يسوع اختار بيت عنيا، قرية قريبة من جبل الزيتون، لتكون مكان آخر ظهور له قبل الصعود. شرح الآباء أن هذا المكان ليس عشوائياً. جبل الزيتون كان مكاناً مميزاً في حياة يسوع، يحمل ذكريات صلاته وتأمله، كما أنه كان قريباً من أورشليم، مركز إيمان التلاميذ. قال يوحنا ذهبي الفم إن بيت عنيا، المكان المألوف للتلاميذ، كانت كتذكار دافئ بحضور يسوع، حتى بعدما يصعد. أضاف كيرلس الكبير أن جبل الزيتون، كمكان للصلاة والوحي، كان المكان المثالي ليسوع ليعلن بداية حكمه السماوي، كنقطة تلاقي بين الأرض والسماء.

عندما رفع يسوع يديه وبارك التلاميذ (لوقا 24: 50)، قال الآباء إن هذه البركة كانت أكثر من مجرد كلام. كانت كعطية إلهية، تملأ التلاميذ قوة وحماية ليتمكنوا من تنفيذ المهمة التي كلفهم بها. شرح أثناسيوس الرسولي أن رفع يسوع ليديه كان كحضن أبوي، يترك للتلاميذ نعمة إلهية تحميهم في خدمتهم. أضاف يوحنا ذهبي الفم أن هذه البركة تؤكد أن يسوع لن يترك تلاميذه يتامى، لكنه سيبقى معهم بروحه، ويمنحهم قوة الروح القدس الذي سينزل قريباً.

وبعد ذلك، وبينما هو يباركهم، بدأ يسوع يرتفع عن الأرض، وسحابة أخذته من أعينهم (لوقا 24: 51، أعمال 1: 9). قال الآباء إن الصعود ليس مجرد انتقال من مكان إلى مكان، لكنه إعلان بأن يسوع دخل مجده السماوي وبدأ حكمه كملك للكون. شرح كيرلس الكبير أن يسوع، بصعوده، رفع الطبيعة البشرية معه إلى عرش الله، لأنه كإنسان وإله أخذ جسده الممجد إلى السماء، وهذا تتويج لخلاصنا. قال أثناسيوس الرسولي إن الصعود يحول حضور يسوع من الجسدي إلى السري، أي أنه الآن موجود في كل مكان من خلال نعمته وروحه في الكنيسة. السحابة التي غطته، كما شرح يوحنا ذهبي الفم، هي رمز لمجد الله، كالسحابة التي كانت ترافق بني إسرائيل في البرية (خروج 13: 21). أي أن يسوع دخل في المجد الإلهي، لكن ليس ليتركنا، بل ليحكم من السماء ويرسل الروح القدس.

عندما كان التلاميذ ينظرون إلى السماء، مذهولين مما رأوه، ظهر لهم اثنان بثياب بيضاء، على الأرجح ملائكة، وقالا: "هذا يسوع الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء" (أعمال 1: 11). قال الآباء إن كلام الملائكة هذا كالوعد القوي بالرجوع. شرح أثناسيوس الرسولي أن هذا الوعد هو أساس رجاء الكنيسة، لأن يسوع، كما صعد في المجد، سيعود كديان وملك ليكمل ملكوت الله. أضاف يوحنا ذهبي الفم أن كلام الملائكة كان دعوة للتلاميذ لكي يتوقفوا عن النظر إلى السماء ويبدأوا العمل للرسالة، وفي نفس الوقت يعيشوا يقظين مستعدين لرجوع المسيح.

ما يجعل هذا المشهد مميزاً هو أن التلاميذ عادوا إلى أورشليم "بفرح عظيم" (لوقا 24: 52)، على الرغم من أن يسوع تركهم جسدياً. قال الآباء إن هذا الفرح ليس عادياً، لكنه ثمرة إيمانهم بالقيامة والصعود. شرح كيرلس الكبير أن الروح القدس بدأ يعمل في قلوبهم، ولذلك فهموا أن صعود يسوع هو انتصار، لا خسارة. قال يوحنا ذهبي الفم إن فرحهم يوضح أنهم أصبحوا شهوداً جريئين، ليسوا خائفين كقبل ذلك، لأنهم عرفوا أن يسوع معهم بروحه وسيعود ثانية. عودتهم إلى الهيكل وتسبيحهم الدائم (لوقا 24: 53) كان كإعلان بأن الكنيسة بدأت رسالتها بقوة، تنتظر الروح القدس كما وعدهم يسوع (أعمال 1: 4).

يمنحنا هذا الظهور دروساً عميقة. أولاً، كما علم كيرلس الكبير، الصعود ليس نهاية، لكنه بداية حكم المسيح السماوي وحضوره في الكنيسة من خلال الروح القدس. ثانياً، يذكرنا أثناسيوس الرسولي أن بركة يسوع لتلاميذه تمنحنا القوة لنعيش الإيمان ونشهد له في العالم. ثالثاً، يؤكد يوحنا ذهبي الفم أن وعد رجوع المسيح يجعلنا نعيش يقظين، نعمل لملكوته ونستعد لمجيئه الثاني بالإيمان والأعمال الصالحة. هذا الظهور كتتويج لكل ظهورات المسيح، يعلن انتصاره العظيم، ويفتح باب الرجاء بأنه معنا دائماً وسيعود ليملك في المجد.

ربط ظهورات المسيح بنبوات العهد القديم عن القيامة

ظهورات السيد المسيح بعد القيامة: نظرة لاهوتية وكتابية متعمقة


إن ظهورات المسيح بعد قيامته ليست مجرد قصص جميلة، بل هي في الواقع إتمام لنبوات العهد القديم التي تحدثت عن قيامته منذ آلاف السنين. فكما قال إشعياء في (إشعياء 53: 10-11) إن "خادم الرب" سيتألم لكنه سيرى النور بعد الموت، وهذا تحقق عندما قام يسوع وظهر للتلاميذ كما في عمواس (لوقا 24: 27) وشرح لهم هذه النبوات.

كما أن مزمور 16: 10 يقول: "لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فساداً"، وهذا دليل قوي على أن جسد المسيح لم يفسد في القبر، كما رآه التلاميذ بجسده الممجد في الظهور الخامس (لوقا 24: 39). وفي هوشع 6: 2، النبوة تقول: "بعد يومين يحيينا. في اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه"، وبالفعل قام يسوع في اليوم الثالث كما ظهر لتوما (يوحنا 20: 26). حتى ظهوره للخمسمائة أخ (1 كورنثوس 15: 6) يؤكد نبوة زكريا 12: 10 بأن الناس سيرون الذي طعنوه، لأن الكثير منهم رأوا جراحاته.

هذا التحقيق للنبوات في حياة يسوع وموته وقيامته يؤكد أن هذه الأحداث لم تكن عشوائية بل كانت جزءاً من خطة الله الأزلية لفداء البشرية. كما أن ظهورات المسيح بعد القيامة هي شهادة حية على هذا التحقيق وتمنح المؤمنين يقيناً راسخاً في صدق كلمة الله.

الدروس والعبر الروحية المستفادة من ظهورات السيد المسيح بعد القيامة

تحمل ظهورات السيد المسيح بعد القيامة دروساً وعبر روحية قيمة كثيرة يمكن للمؤمنين الاستفادة منها في حياتهم اليومية:

  1. تأكيد حقيقة القيامة وأهمية الإيمان: فالظهورات تقدم "براهين كثيرة قاطعة" (أعمال 1: 3) على انتصار المسيح على الموت. وقوله لتوما: "طوبى للذين آمنوا ولم يروا" (يوحنا 20: 29) يشجع المؤمنين على أن يكون الإيمان أساس علاقتهم بالله، حتى دون رؤية جسدية.

  2. قوة الغفران والمصالحة: فظهور يسوع لبطرس بعد أن أنكره ثلاث مرات يكشف عن قلب المسيح المليء بالرحمة والغفران، ويشجع المؤمنين على أن يغفروا لبعضهم البعض ويسعوا دائماً للمصالحة.

  3. التكليف بالشهادة ونشر الإنجيل: فالأمر الذي أعطاه يسوع لتلاميذه بالذهاب وتلمذة جميع الأمم يوضح مسؤولية كل مؤمن في مشاركة رسالة الخلاص مع الآخرين.

  4. وعد حضور المسيح الدائم: فوعد يسوع: "وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (متى 28: 20) يمنح المؤمنين عزاءً ورجاءً في كل الظروف، ويؤكد لهم أنه لن يتركهم أبداً.

  5. التحول من الخوف والشك إلى الفرح والإيمان: فعندما رأى التلاميذ الرب القائم، تحول خوفهم إلى فرح وشكهم إلى إيمان راسخ، وهذا يشجع المؤمنين على أن يثقوا في قوة القيامة للتغلب على مخاوفهم وشكوكهم.

  6. أهمية الكتب المقدسة: فقد استخدم يسوع نفسه أسفار العهد القديم ليشرح لتلاميذه معنى آلامه وقيامته، وهذا يدل على ضرورة دراسة كلمة الله والتعمق فيها لفهم مقاصد الله في حياتنا.

خاتمة

في الختام، يمكن القول إن ظهورات السيد المسيح بعد قيامته هي الأساس المتين الذي بني عليه الإيمان المسيحي والرجاء الثابت. فالقيامة هي الانتصار الأعظم على الخطيئة والموت، وهذه الظهورات تؤكد هذا الانتصار وتمنح المؤمنين يقيناً في قوة الله ومحبته. إن التأمل في هذه الأحداث العظيمة ودراسة تفاصيلها يمكن أن يلهم المؤمنين ويقوي إيمانهم، ويدعوهم إلى تطبيق الدروس الروحية المستفادة منها في حياتهم اليومية. فلنتشجع ونستمد القوة من هذه الحقائق العظيمة، ولنعيش حياة تشهد لقيامة المسيح وقدرته الفائقة.


Post a Comment

أحدث أقدم