الروح القدس فى عظات القديس مقاريوس الكبير


الروح القدس فى عظات القديس مقاريوس الكبير
الروح القدس 
فى عظات القديس مقاريوس

مقدمة :
لعل
 من أكثر كتابات الآباء تعبيرًا عن الوحدة بين الروح والواقع هى كتابات الآباء شيوخ البرية الأقباط وذلك يعود لعمق خبراتهم الروحية والتى من خلالها تعاملوا مع كل الظروف المحيطة وأيضًا يعود إلى أنهم لا يدخلون الفلسفة فى روحياتهم كاليونانيين .
          مرة جاء افاغريوس البنطى إلى شيخ فى البرية وسأله :
" لماذا يمارس المصريون النسك والتمييز أكثر من اليونانيين ؟
" فأجابه الشيخ " لأن اليونانيين قد أهدروا وقتهم فى حب الكلام والعجب " وهذا يعكس لنا أن آباء البرية عاشوا التأمل Qewria والتاريخ istoria بعمق باطنى يميز الروحانية القبطية . وسنتعرض الآن إلى هذا الجانب من خلال القديس مقاريوس المصرى وسنلجأ فى هذه الدراسة إلى عظات القديس مقاريوس التى صدرت فى ترجمات عربية مختلفة .





الروح القدس والإنسان والكنيسة والتاريخ
فى عظات القديس مقاريوس المصرى
رؤية قبطية للعلاقة بين التأمل Qewria والتاريخ Istoria
          القديس مقاريوس المصرى (300 ـ 390م) وأسماه إخوته فى البرية " الشاب الشيخ " هو مؤسس منطقة الأسقيط الرهبانية وهو تلميذ العظيم الأنبا أنطونيوس وكلاهما يعبران وبصدق عن خصوصية الروحانية القبطية بل والشرقية والتى تتميز بالتفاعل العفوى والاندفاع القلبى نحو الشركة مع الله الآب فى وجه يسوع الحبيب بالروح القدس . والروح القدس عند مقاريوس هو (فلاح النفس البشرية ومخصبها) ويقول العالم الفرنسى A.Guillaumont بأن عظات مقاريوس إنما تعبر عن الروحانية المسيحية فى أنقى صورها ويذهب آخر إلى أن الشرق المسيحى لم يفصل أبدًا بين العقيدة كلاهوت والعقيدة كخبرة كنسية وروحية وأن العقائد الأساسية كالثالوث والتجسد وعمل الروح القدس والتى صاغها الآباء فى القرون الأولى ما هى إلا صور الاختبارات النسكية وضعت فى صيغ عقائدية . فالروحانية ( النسك والسلوك ) لا تنفصل عن العقيدة ( اللاهوت ) . وبأسلوب آخر المخدع لا ينفصل عن المكتب .(1)
          الروح لا ينفصل عن التاريخ والأحداث . وليس من قبيل المصادفة أن تزامن جهاد مقاريوس لإعلاء شأن الروح القدس وعمله فى داخل النفس اختباريًا (هذا الروح الذى فيه وحده تستطيع النفس المؤمنة أن تجد راحه (7:5) عظات القديس مقاريوس الكبير مركز دراسات الآباء 1991 وسوف _______________________
(1) Andrew Louth , the origins of the Christian Mystical Tradation Oxford , 1991 ,P.v
نقتبس دائمًا من هذه الترجمة مع الرجوع إلى النص اليونانى من حين إلى آخر ) .
نقول تزامن جهاد مقاريوس مع جهاد الكنيسة لإعلاء شأن الروح القدس لاهوتيًا وصياغة ذلك عقائديًا فى مجمع القسطنطينية 381م.
          فخبرة الآباء الشيوخ هى ثيؤريا=تأمل Qewria والمجمع هو التعبير التاريخى عن هذه الخبرة ،تاريخ Istoria  فهناك إذًا فى ضمير الكنيسة وحدة بين الجهاد الروحى الاختبارى والجهاد العلمى واللاهوتى [ لأن تلك النار السماوية ، ونار اللاهوت، التى يقبلها المسيحيون فى قلوبهم الآن وهم فى هذا العالم الحاضر ، هذه النار نفسها التى تعمل فى قلوبهم من الداخل سوف تصير ظاهرة من الخارج ] (عظة 1:11) فاللاهوت كعلم كنسى هوامتداد لعاصفة يوم الخمسيين فى الكون . [كما أن الثلاث فتية كان لهم أفكار البر ، فقبلوا نار الله فى داخلهم " وسجدوا للرب بالروح والحق " كذلك الآن فإن النفوس المؤمنة تنال النار الإلهية السماوية فى إنسانها الداخلى وهم فى هذا العالم وتلك النار نفسها تطبع صورة سماوية فى طبيعتهم البشرية ] (عظة 2:11) الترجمة الحرفية(يُشكل أو يرسم أيقونة سماوية ) وفعل يُشكل morfie هو الذى استخدم الرسول الأسم منه فى     ( فيلبى 2:5) "آخذًا صورة morfie العبد" . فى ( عظة 30:4) يؤكد القديس مقاريوس أن السيد المسيح يرسم فى النفوس صورة الإنسان السماوى على صورته . ويمثل لاهوت استدعاء الروح القدس Epiclesis فى الليتورجيات الشرقية القاعدة لفهم فكر وممارسات آباء البرية وما يمثلونه من تيار نسكى ترك بصماته على الكنيسة أثناء الحقبة الآبائية ، فالحياة النسكية هى استدعاء دائم للروح القدس لكى يحول جسدنا المائت إلى هيكل الحياة الأبدية أى يحول شهادة المسيح إلى واقع حي مقروء من جميع الناس أى يحول Istoria  إلى Qewria  (2) .
1ـ الروح القدس والسر المكتوم منذ الدهور:
          يعتبر القديس مقاريوس أن الهدف الأساسى وراء ظهور السر المكتوم منذ الدهور فى السيد المسيح هو أن [يتمتع الإنسان بالاشتراك فى روح ونور الله ] ( عظة 2:1) وهذا النور يجعل الإنسان ناظرًا دائمًا إلى الأمام أى يصير شخصًا حيًا Prospon . المختبرون شركة الروح القدس عند مقاريوس لاينظرون إلى الوراء بل هم مستقبليون [ لايكون لها جزءخلفى بل فى كل اتجاه يكون وجهها إلى الأمام ] (عظة 2:1) ، والسبب وراء القدرة على النظر إلى الأمام هو [ الجمال الذى يفوق الوصف الذى لمجد نور السيد المسيح ] ولعل أكثر ما يثلج قلب الآب أن نتمعن فى وجه النور ، وجه ابنه الوحيد الذى به سُر وأكثر ما يبهج الروح القدس أيضًا هو أن يشهد فى قلوبنا للسيد المسيح ويأخذ مما له ويهمس به فى أورشليمنا الداخلية حتى ننال نحن الموهبة غير المائتة . نحن إلهيون من جهة وتاريخيون من جهة البشرية . إننا نسير لكننا نثبت فيما نسير . نحن زمان وروح فى آنٍ واحد . يحملنا زمان لايخلو من روح . وروح ليست مستقلة عن الزمان (3). نـــكرز بــالـــنور فـــى اليهودية والسامرة وأقصى الأرض فالروح القدس يعطى للشهادة بُعدًا تاريخيًا وبُعدًا كونيًا وبُعدًا شخصيًا .
_____________________
(2) الرؤية الآبائية لحضور الروح القدس وعمله فى الكنيسة والعالم ـ خرستوس ياناراس ـ ترجمة أ. ناجى أسحق. وقد ظهر هذا المقال فى كتاب أعمال المؤتمر السنوى الثانى للدراسات الآبائية ـ سبتمبر 1994م.

3ـ الروح القدس والتدبير الإلهى والحس التاريخى للخلاص:
          [ هذا السر المكتوم أُعلن تديجيًا للبشر وربنا يسوع المسيح إذ اهتم بخلاص الإنسان نفذ منذ البدء كل تدبير وعناية من خلال الآباء والبطاركة والناموس والأنبياء وفى النهاية جاء هو بنفسه واستهان بعار الصليب واحتمل الموت من أجل أن يلد من ذاته ومن طبيعته أولادًا من الروح لأنه سُرَ أن يُولدوا من الروح من فوق أى من نفس لاهوته ] ( عظة 2:30) .
          الروح القدس روح الـQewria  يعطى للإنسان والكنيسة حسًا تاريخيًا . والآباء وبينهم القديس مقاريوس تكلموا باسهاب عن التدبير الإلهى  منذ السقوط وحتى مجئ المسيح ونجد تعبير " تاريخ الخلاص " كثيرًا فى المؤلفات اللاهوتية المعاصرة . فالروح يعمل منذ السقوط وفى تاريخ البشرية الساقطة بالأنبياء . ويعمل فى العالم الحاضر فى قلوب المسيحيين التائبين وسيعمل فى المستقبل ( عظة1:11-6:30-30،7-1:35،2) وعن استمرارية عمل روح الله فى التاريخ البشرى نقرأ هذا القول المملوء بنبض الروح العامل فى التاريخ بكل ظروفه [ لقد كانت قوة الله حاضرة مع الأبرار بلا انقطاع وكانت تعمل عجائب منظورة وكانت النعمة الإلهية ساكنة فيهم وكان الروح يعمل فى نفوسهم للتنبؤ ، التكلم حينما كانت تدعو الحاجة أن يُخبروا العالم بأحداث عظيمة ] (عظة3:50) .
        وهنا نلاحظ التناسق بين عمل الروح القدس وأحداث العالم العظيمة. فتاريخ العالم فى اللاهوت الآبائى هو تاريخ عمل الله بالروح فى العالم . والله فى كلامه مع العالم استخدم " أنواع وطرق كثيرة " (عب 1:1) [ولما ____________________
(3) الخولاجى المقدس والثلاث قداسات اصدار دير السيدة العذراء ـ المحرق (صلاة الصلح القداس الباسيلى) . انظر أيضًا كتاب (وجه النور) للأب ليف جيلليه .
كلمنا فى الأيام الأخيرة فى ابنه ارسل الروح القدس ليعمل أعمال متنوعة فى جميع الأعضاء ] (عظة4:12) . أى أن الله مازال يعمل بروحه فى الكنيسة والعالم بطرق ومواهب متعددة .
فمواهب الروح هى التى تميز بين المؤمنين فى الجسد الواحد وهى تحقق حضور الكنيسة فى العالم وحضور التأمل فى التاريخ .
3ـ الروح القدس والصليب والقيامة ويوم الخمسين :
          الروح القدس هو الذى يتسلم الفداء ويوزعه ويلغى الهوة القائمة بين ما مضى وما يحصل الآن لأن الزمان يستعلن كله فى أبدية هى اللحظة الحاضرة التى أنجو فيها .
          ويمثل الصليب والقيامة عند القديس مقاريوس الأساس اللاهوتى والتاريخى لانسكاب الروح . وهو كعادته لا يستفيض فى شرح ما حدث فى الصلب من أحداث والقيامة من مواقف بل يذهب رأسًا إلى أثر هذه الأحداث فى الرسل وفى المسيحيين وفى الكنيسة وفى العالم [ إن الرسل أنفسهم قبل الصليب بملازمتهم للرب رأوا آيات عظيمة ، كيف كان البرص يتطهرون والموتى يقومون ولكنهم لم يكونوا يعرفون كيف تدخل القوة الإلهية وتتمم خدمتها فى القلب ، وكيف يُولدون ثانية بالروح ويشتركون مع النفس السماوية ويصيرون خليقة جديدة (2كو17:5) ولكنهم أحبوا الرب بسبب ما لمسوه فى شخصه . والرب قال عنهم ، لماذا تتعجبون من الآيات إنى اعطيكم ميراثًا عظيمًا لايملك العالم كله مثله ] (عظة17:12).
4ـ من حب الاندهاش إلى الحب بالروح :
          من الغموض إلى الوعى بالذات ومن الرؤية الإلهية إلى التاريخية . القديس مقاريوس يصف لنا مشاعر الرسل قبل يوم الخمسين فإذ هى خليط من الانبهار والاعجاب ولعل هذا يتفق مع وصف العهد الجديد لجماعة المؤمنين بعد الصليب ، انبهار غير قادر على اتخاذ قرار! وأكثر من ذلك [ فإن كلمات المخلص كانت تبدو غريبة لهم إلى أن قام من يبن الأموات وصعد بالجسد إلى أعلى السموات من أجلنا وبعد ذلك انسكب الروح المعزى ودخل فى نفوسهم واختلط بهم والحق ذاته يظهر نفسه فى النفوس الصادقة والمؤمنة ، يأتى الرب الذى هو الإنسان السماوى ويصير فى شركة مع كل إنسان وفى شركة معك ] (عظة17:12) ، [ونحن من خلال جسد الابن الوحيد الذى هو متحد باللاهوت وهو دائمًا مع الروح القدس نصير دائمًا مع الرب ] (عظة 4:17). فالروح القدس فى اليوم الأول للخليقة "يرف على وجه المياه " لكى يعطى الحياة للخليقة، وحل على السيدة العذراء ممثلة البشرية جميعًا لكى ينفخ فى احشائها الحياة البشرية لكى يتجسد اللوغوس الإلهى ، وهب يوم (الخمسين) على التلاميذ لكى يجعل منهم الجسد الحى للبشرية الجديدة التى هى حياة الشركة الكنسية *.
وهنا الروح ينشئ الكنيسة ويقيمها فى المسيح فى التاريخ.
5ـ الروح والعروس :
          الروح القدس هو روح الشركة وروح الكنيسة ، والقديس مقاريوس يركز دائمًا على القاعدة الرسولية للكنيسة (أى البعد التاريخى للرؤية السماوية) وأن [ تعليم الرسل قد دشن عالمًا جديدًا مختارًا من الله ] (عظة6:6) . وحينما يفسر الآية الخاصة بيوحنا المعمدان (مت11:11)
 _________________________
* (ملحوظة: انظر خرستوس ياناراس ص1،انظر أيضًا عظة 6:6،7) 

يقول [ حقًا من بين المولودين من النساء ليس أعظم من يوحنا ..... فإنه هو تكميل الأنبياء وخاتمتهم ، كل الأنبياء تنبأوا عن الرب واشاروا إليه من بعيد أما يوحنا فتنبأ عن المخلص وأظهره أمام عيون الجميع صارخًا بصوت عالٍ "هوذا حمل الله " (يو29:1) أنه لايوجد أعظم من يوحنا فى مواليد النساء ولكن الأصغر فى ملكوت السموات أعظم منه (مت11:11) أى المولودين من الله من فوق ، أى الرسل ، الذين نالوا باكورة الروح المعزى ، لأنهم حسبوا أهلاً لأن يكونوا شركاء معه فى الدينونة ...وهم قد جعلوا محررين ومنقذين للناس ... وتجدهم فلاحين فى كرم النفوس وتجدهم أصدقاء العريس ... ] (عظة6:28،7) .
          وفى قراءة خرستولوجية typology  للعهد القديم والتى ميزت كل اللاهوت الآبائى . يتكلم القديس مقاريوس عن الآباء الرسل قائلاً :      [ وكان رئيس الكهنة له على صدره حجران كريمان، وعليهما أسماء أسباط إسرائيل الأثنى عشر (خر10:28) وكان هذا ليكون رمزًا ومثلاًtypos لأن الرب أيضًا بنفس الطريقة وضع على صدره الرسل وارسلهم مبشرين وكارزين للعالم اجمع وها أنت ترى كيف أن الظل يشير إلى الحقيقة ] (عظة5:32) وهذا مثال رائع للوحدة بين الحس الروحى والحس التاريخى عند الآباء .
6ـ الكنيسة واقتناء الروح القدس :
          إن اللاهوت هو امتداد لشهادة marteria ,marturia المسيح فى الكنيسة وتحقيق لها فى العالم والتاريخ . ولهذا فاللاهوت يعبر عن يوم الخمسين الدائم الحضور فى الكنيسة من خلال وحدتها وتمايز مواهب أعضائها وهذا التمايز فى المواهب تحكمه احتياجات الإنسان . وهنا يحدث وعى بعمل الروح التجديدى لكل أعضاء جسد الكنيسة ومنهم إلى جسد البشرية جمعاء وهكذا فإن نعمة الشركة الأفخارستية تتحول فى أعضاء الكنيسة إلى مواهب وإلى لاهوت يسند هذه المواهب ويؤسسها ويحفظها فى شركة الكنيسة .
          والقديس مقاريوس مثل غيره من الآباء يدرك أهمية الكنيسة واسرارها فى "نقل" النار السماوية إلى البشرية وهنا نحن أمام أعمق تجسد للرؤية فى التاريخ البشرى ، بالأسرار تتحول الكنيسة إلى خليقة جديدة ويندفع أولادها المستنيرون بالمعمودية واضرام بذرة الحياة الجديدة بالتوبة واقتناء المواهب فى شركة الأفخارستية والخدمة ، إلى الشهادة الحية . والقديس مقاريوس يشرح لنا أسرار الكنيسة على أنها هى الأمور التى لم ترها عين ولم تسمع بها أذن (1كو2:9) والتى أعلنها الله لكنيسته بالروح [ فى ذلك الزمان كان الأبرار والعظماء والملوك والأنبياء يعرفون أن المخلص لابد أن يأتى ولكنهم لم يكونوا يعرفون ولاكانوا قد سمعوا أنه سيتألم ويصلب ويسفك دمه على الصليب ولم يخطر على بالهم أنه ستكون هناك معمودية بالنار والروح القدس  ] وأن فى الكنيسة ستُقدم تقدمة الخبز والخمر تحقيقًا لجسده ودمه، الأفخارستيا هى أعمق مثال على الاتحاد الكامل بين الثيؤريا والتاريخ عند الآباء وفى الكنيسة فكما تقول الديداكى " الكنيسة تجمع الحنطة من على الجبال أى ثمرة عمل الإنسان وتقدمها للرب على المذبح لكى يتحول الخبز والخمر إلى جسد الرب ودمه ..." ، ويقول عالم الآباء ألكسندر شميمن فى كتابه عن الأسرار (4) ( إننا نقدم إلى الله العالم كله وتاريخ البشر فى هيئة الخبز والخمر لكى ما يقدسها ويعيدها إلينا متحدة بروحه وجسده ودمه ، إن أولئك الذين يتناولون الخبز المنظور سيأكلون جسد الرب روحيًا )، [ لأن الرسل والمسيحيين سينالون المعزى "ويتأيدون بالقوة من الأعالى "(لو49:24) ويمتلئون إلى كل ملء الله(أف) وأن نفوسهم تمتزج بالروح القدس وتتشبع به، هذا لم يعرفه الأنبياء والملوك ولاخطر على قلبهم ، والآن فإن المسيحيين يتمتعون بغنى عظيم يختلف عن غيره وقلوبهم تشتاق إلى الله ] (عظة 17:27) . وفى العظة الثالثة عشر يتكلم عن ضرورة تكريس القلب والتغصب للاستعداد لنوال الأسرار السماوية ويعطيه الرب الطعام السماوى والشراب الروحانى (1كو4:10) والجسد والدم هو طعام البنين (يو35:8) [وإذ يذهب الأولاد مع يسوع والدهم فى كل مكان فإنه يعطيهم ذاته ] " من يأكل جسدى ويشرب دمى يثبت فىٌ وأنا فيه " (يو56:6) وأيضًا " لايرى الموت " (يو51:8) المعمودية كممارسة فى الزمن وعطية الروح القدس أى الزمن الجديد .
واكن مايعنينا هنا أن فى النصوص الأخرى هناك تعاليم أخرى للقديس مقاريوس سبق وأشرنا إلى بعضها فى العظات الخمسين ولكن هنــــاك تأكيـــد عليها يهمنا أن نعرضه لعلاقته الوطيدة بعمل الروح القدس فى الكنيسة ذكرها العالم الفرنسى الأرثوذكسىPlacide Deseille  فى المقدمة الرائعة التى سبقت ترجمته لعظات مقاريوس إلى الفرنسية ووضعها تحت عنوان " أقتناء الخلاص " وبعدها وضع عنوانًا جانبيًا " المعمودية أساس الحياة الروحية " وفى هذا النص الهام يجيب القديس مقاريوس على السؤال الآتى : إذا كانت المعمودية ممارسة حقيقية وأساس الإيمان فلا يجب أن ننتظر شيئًا آخر من السماء ( يقصد الأمتلاء وشركة الروح التى يذكرها
_______________________
(4) من أجل حياة العالم For the life of the world -
دائمًا القديس مقاريوس ) إذًا من الواضح أنه لاجدوى من انتظار شيئًا آخر بعد المعمودية ! ويجيب القديس مقاريوس : [ إننا فى المعمودية نأخذ أساس عمل الروح القدس] وهنا تجد عظات مقاريوس فى وضعها اللاهوتى الصحيح وهو احترام لموهبة الله التى حلت فى المسيحيين وذلك بالتوبة والصلاة والشركة : وفى " الرسالة الكبرى " يشرح القديس مقاريوس هذا الأساس الكنسى لعمل الروح القدس وفى الفقرة الثانية من الرسالة يُسهب القديس مقاريوس فى شرح ضرورة أن يقدموا أجسادهم ذبيحة مقدسة عبادتهم العقلية (رو2:12) ليختبروا ماهى ارادة الله الصالحة المرضية ، ويربط بين سر الثالوث والإيمان الأرثوذكسى والاعتراف بالإيمان فى المعمودية ، [ الإيمان الأرثوذكسى يسجد للثالوث ذى الجوهر الواحد والمجد الواحد كما نعترف فى السر المقدس الذى للمعمودية ] .وفى موضع آخر يقول [ إن المؤمنين يقبلون عربون الروح فى المعمودية باسم الثالوث وذلك من أجل أن ننمو فى الكمال ، كمال الميراث ومن أجل مضاعفة الوزنة فى (مت 15:25) التى للسر العظيم ]. وفى نفس الرسالة يتكلم عن الكنيسة بشكل أوضح [ إن الروح الإلهى المعزى الذى أُعطى الرسل ومنهم لكنيسة الله فى ساعة المعمودية ، هذا الروح يتحد بكل من يتقدم للمعمودية بإيمان صادق ] ... أى أنكار للأسرار أو تقليل من شأنها هو تقليل من شأن الكنيسة وبالتالى الحضور التاريخى الفعلى للروح فى العالم والكنيسة ليست مؤسسة دنياوية بل هى امتداد ملكوت الله ( الثيؤريا )على الأرض   ( الأستوريا ) .
          " إذا ما وقفنا فى هيكلك المقدس نحسب كالقيام فى السماء ياوالدة الإله أنت هى باب السماء افتحى لنا باب الرحمة " (من صلوات الأجبية المقدسة ) .
روح الشركة : أنا أتكون من حرارة الآخر الروحية :
يسمى القديس مقاريوس حياة الشركة :
(أ) بالشركة الأخوية ( عظة 3).    (ب) والمدينة السماوية (عظة 2:12) .
(جـ) والعائلة السماوية (عظة 23).
[ والكنيسة السماوية هى واحدة ولكن بها أعداد لاتحصى وكل شخص فيها يتزين بمجد الروح بطريقة فريدة خاصة لأنه كما أن الطيور تخرج من أجسادها غطاء لها هو ريشها إلا أنه توجد اختلافات كبيرة بين الطيور نفسها ...هكذا القديسون فأنهم متأصلون فى سماء واحدة هى سماء اللاهوت ولكن بطرق متنوعة .... فإن الروح إذ يأتى إلى القلب فإنه يصنع فكرًا واحدًا ، فإن الذين هم فوق والذين أسفل هم تحت تدبير وقيادة روح واحد ] (عظة 3:32).
التوازن بين المؤسسة والخاريسما (موهبة) بين الروح والتاريخ:
         القضية الكبرى التى واجهتها الكنيسة الأولى منذ البدء والواضحة فى رسائل بولس والآباء الرسوليين ولاهوت أغناطيوس الأنطاكى هى ضرورة أن تجتمع كل المواهب حول سر الأفخارستيا والأسقف . وهنا تأسس الانسجام والتوازن بين المواهب والتنظيم الكنسى والإدارة والتى انطلقت من روح الإفخارستيا . فالإفخارستيا هى مركز كل حركة الكنيسة فى التاريخ . قد كتب الباحث الأمريكى Peter Brown  عن أن الخطورة تكمن فى أن يحدث    ( روتنة المواهب ) وهنا يحدث الفصام بين الإدارة الكنسية والمواهب وقديمًا قال أفلاطون " ليت الفلاسفة يحكمون والحكام يتفلسفون " . وأباء الكنيسة طبقوا ذلك فى الكنيسة فأدار الكنيسة اللاهوتيون فصارت الإدارة نفسها خاريسما أى الموهبة الروحية فلا يوجد عند الأباء تناقض بين " خادم النادى " و " خادم الكلمة " أو " خادم أخوة الرب " أى أن كل عمل فى الكنيسة تحول إلى عمل خريسماتيكى نابع من روح التوبة والشركة وحين يتكلم عن مريم ومرثا يؤكد مقاريوس على هذه الوحده ( عظة 16:12 ) وفى تعبير رائع عن هذا الإتزان بين المواهب " فمهما كان انشغال الأخوة فينبغى أن يقوموا به فى محبة وبشاشة نحو بعضهم البعض ، فالذى يشتغل منهم فليقل عن الذى يصلى " أن الكنز الذى يجده أخى هو كنز مشترك فلذلك فهو كنزى " والذى يصلى يقول عن الذى يقرأ " أن كل ما استفاده أخى من القراءة هو لمنفعتى " والذى يعمل فليقل " أن ما أعمله من الخدمة diakonia  هو لمنفعة الجميع " ..... وهناك أمر لازم للجميع ، هو أن يحصل الإنسان فى داخل نفسه على كنز ، وعلى الحياة فى عقله هذه الحياة التى هى الرب نفسه ـ حتى أنه سواء كان يشتغل أو يصلى أو يقرأ فلا يزال حاصلاً على ذلك النصيب الذى لا يزول الذى هو الروح القدس ( عظة 3:3 ) . الوحده بين المواهب والكنيسة وأبائها لدليل على الوحده بين عمل الروح والواقع التاريخى بين الثيؤريا والإستوريا .
          إن العداء بين الأنبياء كحاملين للروح والكهنة كخدام للطقس أى بين النعمة وتجسيدها التاريخى فى الأسرار والكهنوت لايمت بصلة للتراث الأبائى بل هو نتاج قراءة بروتستانتية للكتاب المقدس أثناء عصر الإصلاح والهجوم على الكنيسة الكاثوليكية وخاصة العهد القديم فالنبى فى العهد القديم هو ابن بيئته الطقسية ونقد الأنبياء كان ضد الممارسة الشكلية للطقس وليس ضد الطقس ومحاولة تأسيس الصراع بين المواهب والمؤسسة ، بين النبى والكاهن نشأ فى ظروف عصر الإصلاح البروتستانتى (5) ، ولا نجد أثر له عند الآباء فالكنيسة تحفظ المواهب وتجد بينها الاتزان اللازم . (راجع 1كو12).
الجهاد الروحى والواقعية الآبائية :
          فى وسط هذه الأجواء الروحية المقاريوسيه أى الطوباوية يجد الجهاد الروحى معناه وهدفه وفى معظم العظات يتكلم قديسينا عن الجهاد وضرورة اشتراك الإنسان فى العمل مع الروح : " فليغصب كل واحد منا نفسه ليطلب من الرب أن يحسب أيضًا أن ينال وأن يجد كنز الروح السماوى لكيما يستطيع بدون صعوبه أن يتهيأ أن يعمل كل وصايا الرب بنقاوة وبلا لوم ـ تلك الوصايا التى لم ينجح قبل ذلك مهما غصب نفسه .... أما النفس التى وجدت الرب الذى هو الكنز الحقيقى فإنها بواسطة طلب الروح وبالإيمان والثقة وبصبر كثير تثمر ثمار الروح بسهولة وراحة " (عظة 3:18 ، 19). وفى العظة 25 يؤكد الحاجة إلى قوة الصليب ويعتبر أن الحياة على الأرض باطلة وبلا هدف بدون قوة الله أى أن التاريخ بلا معنى بدون رؤية الله. (عظة 2:25) ويميز القديس مقاريوس بين الجهاد الذاتى والجهاد بالروح     ( عظة 21:26 ) " الأشياء التى تعملها بنفسك هى حسنة مقبولة أمام الله ولكنها ليست نقية تمامًا فمثلاً : أنت تحب الله ، ولكنك لاتحبه محبة كاملة فحينما يأتى الرب إلى داخلك فإنه يعطيك محبة سماوية غير متغيرة ... منذ سقوط الإنسان صارت تربة القلب البشرى تنبت شوكًا وحسكًا والإنسان يعمل فيها ويتعب ومع ذلك تنبت فيها أشواك الخطية
______________________
(5) Louis Bouyer , Gnosis , La connaissance de Dieu dans L’Ecriture , ceif 1988, p26.


 ( تك 18:3 ) إلى أن يأتى الروح نفسه " ويعين ضعفات الإنسان "         ( رو26:8 ) ويزرع الرب الزرع السماوى فى تربة القلب ويفلحها ولكن برغم ذلك لايزال الحسك والشوك ينبتان ثانية ثم يعمل الرب والإنسان معًا فى أرض النفس ولايزال أشواك " .
          تظهر الواقعية الأبائية أيضًا فى أن حصول الإنسان على النعمة لا يغير طبيعته فالذى كان شديدًا يبقى على شدته والرقيق على رقته (عظة 5:26) وسيظل احتفاظ كل إنسان بطبيعته حتى فى قيامة الأجساد (عظة 10:15). سر الخلاص عند الأباء هو فى اطلاق طاقة الإنسان لتصير أعمالاً خلاقة وإبداعات شاهدة للمسيح وأخيرًا فإن الحياة فى الروح عند القديس مقاريوس هى مسيرة لاتنتهى ويعتبر أن سبب الخطية يكون فى أن كثيرين ظنوا أنهم قد حصلوا على الكمال وقالوا هذا يكفى ولكن الرب ليس له نهاية ولايمكن ادراكه بصورة كاملة ولايجرؤ المسيحيون أن يقولوا " لقد أدركنا " (فى 13:3) ولكنهم يظلون يطلبون بتواضع . ويعلمنا القديس مقاريوس أن أمور الحياة نسبية لأنه " إذا ذهب إنسان له بعض العلم إلى قرية حيث الناس غير متعلمين فإنهم يعجبون به ويمدحونه كأحد العلماء لأنهم جهلاء تمامًا ولكن إذا ذهب نفس هذا الشخص بعمله القليل إلى مدينة حيث العلماء والخطباء فإنه لايجسر أن يظهر بينهم أو يتكلم لآن العلماء الحقيقيون يحسبونه جاهلاً ( عظة 17:26 ) . فالمعرفة البشرية مهما كان مستواها فهى لاترقى إلى معرفة كل شئ . والأباء أحبوا رؤية الرسول بولس للأمور الآن فى مراه (1كو 10:13 ) . والتاريخ والأحداث ستأخذ معناها من قصدها النهائى أى من الاسخاتولوجيا وذلك واضح من قول الرسول فى بقية الآية : [ فإننا ننظر الآن فى مراه فى لغز لكن حينئذ وجهًا لوجه الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت ] ( 1كو 12:13 ) . المعرفة عند الأباء اسخاتولوجية المدى . وهناك يأخذ تأمل الأباء الشيوخ فى الموت كل قوته فى الإسخاتولوجيا .

Post a Comment

أحدث أقدم